أربعين يوماًَ على رحيل المجاهد الشيخ الجمري(قدَّس سرّه)


ذكرى أربعين العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري
في الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2006 فجعت البحرين برحيل شيخها وأحد رموزها الكبار ورائد حركتها المطلبية في التسعينات سماحة العلامة المجاهد الشيخ عبدالأمير الجمري. وتمر هذه الأيام ذكرى الأربعين من وفاته فتتألق صورة الجمري من جديد ليمر أبناء البحرين من خلالها مرور المحبين. الاحتفال التأبيني تم تأجيله لما بعد عاشوراء، ولكن ذكرى الإمام الحسين (ع) هي التي صاغت شخصية الشيخ الجمري… فكان هذا الملحق الخاص بالذكرى.
نستذكر اليوم تلك الحشود التي تجمعت منذ ساعات الصباح الأولى في ذلك اليوم القارس لتودع شيخها، ولتقدم له وقفة وفاء وتكريم وشكر على نضالاته وتضحياته من أجل وطنه، وفي شتى مجالات عمله وبما يتصل بنشاطه السياسي الذي قدم فيه الكثير. نستذكر أيضاً أحاسيس الحب له وتلك الكلمات الصادقة التي عبرت عن حضور هذه الشخصية الكبيرة في قلوب أبناء البحرين كافة. كلمات الوفاء والحب للشيخ الجمري كانت دلالة على حضوره الكبير في قلوب أبنائه ودلالة أيضاً على تنوع هذه الشخصية الوطنية، التي استطاعت أن تجمع أبناء هذا الوطن كافة… وهو ما جمعهم على كلمة سواء وعزيمة واحدة. توافدت الجموع في يوم تشييع الشيخ الجمري من شتى مناطق البحرين، وكان للبحرين أن تلتف بالسواد والحزن. وتوالت طيلة الأيام التي عقد فيها مجلس العزاء على الشيخ الجمري رسائل التعزية من شتى الفعاليات الوطنية السياسية والدينية والاجتماعية، كذلك شاركت البحرينيين حزنهم الكثير من المؤسسات الدينية والسياسية من شتى البلدان العربية والإسلامية.

 

 

«ندوة الخطباء» مشروع للجمري لم يرَ النور

ارتبطت شخصية الشيخ الجمري بالإمام الحسين، وفي النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي تحرك الجمري لإنشاء «ندوة الخطباء» لتطوير المنبر الحسيني… المشروع لم يرى النور، ولكن لربما تحققت أمنيته على من يسير على نهجه، و«الوسط» تنشر الرسالة التي بعثها الشيخ الجمري، باسم جمعية التوعية الإسلامية، إلى خطباء المنبر الحسيني آنذاك.

جمعية التوعية الإسلامية

ندوة الخطباء

الفاضل الخطيب المحترم

تحية إسلامية وبعد

انطلاقاً من شعورنا بأهمية الخطيب الحسيني ودوره الكبير في البناء الاجتماعي، ومسئوليته الرسالية الضخمة، وما يستحقه من تقدير لما يبذله من طاقات في التوجيه والبناء كجهاز إعلامي يشكل امتداداً تاريخياً وفكرياً للثورة الحسينية بما تملكه من مبادئ وأهداف سامية وتحسساً لما قد يعترض الخطيب من أزمات مادية أو اجتماعية أو فنية، وتنمية للطاقات الخطابية عن طريق النقاش الهادف البناء… من أجل ذلك كله أرتأينا تأسيس ندوة تحت اسم ندوة الخطباء، يكون اللقاء فيها بين الخطباء أسبوعياً لكل يوم جمعة ابتداءً من الساعة الثامنة حتى العاشرة صباحاً، أما أهداف هذه الندوة فهي كما يلي:

1 – تحقيق تلاقح فكري عن طريق تبادل الآراء والمحاورة بين الخطباء في مختلف الموضوعات التي تهمهم.

2 – تقديم دراسات عن جوانب تاريخية وغيرها لغرض إفادة البعض للبعض الآخر.

3 – تأسيس صندوق تعاوني يهدف إلى تغطية النقص المادي الذي يمر به البعض من الخطباء قدر الإمكان.

4 – الاتفاق على أسلوب العمل لمواجهة ما يجدُّ من القضايا التي تحتاج إلى علاج عن طريق المنبر.

وعليه فأنتم مدعوون إلى التكرم بالحضور في مبنى جمعية التوعية الإسلامية الكائن بالدراز، «وتعاونوا على البر والتقوى» والله الموفق والهادي إلى الصواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رئيس ندوة الخطباء

عبدالأمير منصور الجمري

 

 

من وقائع زيارة لعائلة الخاجة في العام 2001

الشيخ الجمري وتفعيل الوحدة الإسلامية في البحرين

الشيخ الجمري وتفعيل الوحدة الإسلامية في البحرين

زار سماحة العلامة المجاهد الشيخ عبدالامير الجمري (رحمه الله) عائلة الخاجة في مقابة بالمحافظة الشمالية بتاريخ 15 مايو/ايار 2001، وقد بدأت الزيارة بكلمة ترحيبية من العائلة ألقاها نيابة عنها خالد الخاجة امام عدد كبير من الحاضرين الذين كان بينهم علماء دين واساتذة جامعات ومهندسون ورجال اعمال ووجهاء وموظفون.

والقى كلمة ارتجالية بالمناسبة تحدث فيها عن ضرورة توحد الشعب بجميع فئاته واطيافه، كما استذكر يوم النكبة بعد ان سلبت «اسرائيل» ارض فلسطين وشردت ابناء تلك الارض، تبعتها كلمات الشيخ فريد يعقوب المفتاح، وعلي العريبي.

 الخاجة: إزالة الحواجز الوهمية

وفي بداية اللقاء تحدث خالد الخاجة قائلاً «يسعدني أن أرحب بسماحة الشيخ عبدالأمير الجمري وأنجاله وصحبه الكرام على تفضلهم بزيارتنا في هذه الليلة السعيدة، الذي نكن لسماحته كل محبة وتقدير متمنين له التوفيق ودوام الصحة والعافية والأجر والثواب من الله لخدمة الدين القويم والوطن العزيز كما لاننسى جهوده الطيبة في لم الشمل وتوحيد الصفوف…

أيها الإخوة كم يسعدنا هذا اللقاء وكم يفرحنا هذا التقارب وإزالة الحواجز الوهمية، لأنه لا يمكن لأية أمة أن تتطور وتتقدم وقلوبها مختلفة، فلابد من تحديث الفكر الذي يقودنا إلى فهم أفكار الآخرين عبر ايجاد التقارب النفسي والحوار الأخلاقي الصادق وهذه ليست غريبة على مجتمعنا البحريني المبني على الاخوة وأواصر وعلاقات اجتماعية قوية ينبغي الحفاظ عليها، فلا يحق لأي فريق أن يدعي انه هو الإسلام ويكفر الآخر وانه هو الناطق الرسمي باسم السماء، فالإسلام ليس فيه كنيسة، والمذاهب في الإطار الإسلامي زهور في حقل الإسلام تتحاور بل تزين هذا الحقل لذلك ينبغي ان يكون رد فعلنا إسلامياً ووطنياً…

أيها الاخوة، اليوم يصادف الذكرى (53) لاغتصاب الصهاينة أرض فلسطين وإعلان قيام كيانهم الاستعماري الهمجي فيها العام 1948 واليوم يواجه شعبنا في فلسطين صنوفاً من القتل والتهجير والتشريد (قتل الشباب والأطفال والرضع) ويبقى هذا الشعب الصامد وحيداً في ساحة المعركة ينادي هل من ناصر ينصرنا هل من معين يعيننا، يذكرنا ذلك بموقف أبي عبدالله الحسين شهيد كربلاء ورمز التضحية والفداء فهل من معتبر؟. فأهلاً وسهلا بكم بين اهلكم واخوانكم والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.

الجمري: عزتنا في رص الصفوف

ما أحوجنا لتعميق شعور الوحدة وتراص الصفوف واجتماع الكلمة، بهذه الكلمات بدأ العلامة الجمري حديثه… وأضاف «ارجو ألا أكون مبالغاً إذا قلت بأن غبطتي بلقائكم تصل إلى القمة والى الذروة، لأني وأنا انعم مع الأبناء والأخوة بتلبية هذه الدعوة الكريمة من أخينا العزيز خالد الخاجة أشعر بأنني أعيش أسعد الساعات، لأن مقتضيات السعادة كلها متوافرة، فالتلاحم في الفكر والتوجه والشعور والتقارب بين القلوب والآمال والآلام، كل هذه جوامع تجمع بين نفوسنا وقلوبنا…

أحمد الله عز وجل الذي وفقني لهذا اللقاء الحبيب العزيز وما أحوجنا لمثل هذه اللقاءات، هذه اللقاءات لو كنا نعيشها في تاريخنا والفترات الزمنية السابقة لما تمكنت يد مهما كانت تمتلك من كيد وحيلة وقدرة على التهميش والاضعاف والتفريق لما تمكنت أن تضعف كلمتنا أو تمزق صفوفنا أو تفتت جهودنا، نحن نحمد الله اننا نعيش الآن أفضل مراحلنا وأحسن أوقاتنا، وأن حملة الاصلاح التي قادها سمو أمير البلاد حفظه الله قد بعثت للجميع العزم والثقة بالنفس، والأمل كبير جداً أننا نسير من فضل إلى أفضل ومن حسن إلى أحسن…

أحبتي… ما أحوجنا لتعميق هذا الشعور، شعور الوحدة، شعور تراص الصفوف، واجتماع الكلمة، لكي نفوت الفرصة على كل من يريد لهذه الأمة وهذا الشعب السوء وكل من يكيد لأمة محمد (ص)، ولكي نفتح آفاق نجني من خلالها الخير كل الخير، وأصدق الحديث هو القرآن ولقد قال سبحانه وتعالى «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» (آل عمران:103) وجاء عن الرسول الكريم (ص) قوله: «يد الله مع الجماعة» وما اعظمه من قول فهذا النبي العظيم علية الصلاة والسلام يعلنها صريحة بأن الذي يحظى بالقوة والتأييد والتسنيد هم الجماعة أما الأفراد أو المفترقون وهؤلاء يد الله ليست معهم يد الله مع الجماعة ما أعظم هذه المعية، هذه المعية التي تحدث عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما أعظم يد الله مع الجماعة، فإذا كانت يد الله معنا فنحن أقوى من أن نهزم، وأقوى من أن نذل، وأن هذا المعنى لو تربت عليه امتنا وحكوماتنا وشعوبنا، لما استطاعت دولة الصهاينة وهؤلاء الشذاذ، شذاذ الآفاق، أن يقفوا على قدمهم ساعة واحدة ولكن ساعدهم على تحقيق مآربهم تفرقنا. والآن نحن نعيش مناسبة أليمة جدا جدا تتحرك لها كل جروحنا ألا وهي يوم النكبة، ومناسبة النكبة عندما نكبنا في هذا القطر العزيز وهذه الأرض الإسلامية، نكبنا الصهاينة بالهجوم على فلسطين في مثل هذا اليوم سنة 1948، ولكن بالاعتماد على الله والتآزر والتعاون وصدق النوايا ستندحر «إسرائيل» ويندحر كل من ساند «إسرائيل» وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى، أستميحكم العذر أن كنت قد طلت عليكم ولكن الحديث معكم شيق جداً لأني أحس بالتعانق بين قلبي وقلوبكم ونفسي ونفوسكم والحمدلله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

أسئلة وأجوبة للشيخ الجمري

سؤال: أعلن أخيراً تشكيل لجنة للتنسيق بين الطائفتين أثناء زيارتكم التاريخية لجمعية الإصلاح، ما الأعمال أو الخطوات التي تمت بهذا الشأن حتى الآن؟

جواب الشيخ الجمري: أشعر بأن من النعم الكبرى بأنني وفقت بزيارة الاخوة الأعزاء في جمعية الإصلاح ورأيت فيهم وفي المقدمة الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة والإخوة العلماء والأساتذة كل حفاوة وتقدير ما يساعد الإنسان على الاستمرار في هذا الطريق، وجدتهم يحتضنون زائرهم ومن يحب لقاءهم بقلوبهم قبل صدورهم وقبل أيديهم، وأحمد الله عز وجل انني في آخر الخطاب الذي وفقت في إلقائه اقترحت تشكيل هذه اللجنة للتنسيق بين الطائفتين وأنا لا أحب أن أقول كما قال أخي الحبيب هذا الاسم لكن شيئا حصل، الآن نحن في طور التنسيق الاخوة حفظهم الله وضعوا تصورا ومن جانبنا أيضاً وضعنا تصورا, والآن إن شاء الله يدرس هذا التصور وذاك التصور حتى يؤخذ الشيء الذي تلتقي عنده الأفكار ثم يفعّل وتتخذ عناصر لهذه اللجنة وتعتمد بين الجميع ثم تتم ممارسة عملها ومهمتها في القريب العاجل إن شاء الله.

وأولى ثمرات هذا التنسيق بعد أسبوعين ستكون هناك إن شاء الله ندوتان بمناسبة المولد النبوي الشريف ليلة الاربعاء وليلة الخميس 13 – 14 ربيع الأول 1422 هـ (الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة مع الشيخ عيسى أحمد قاسم في بني جمرة في الجامع عندنا، وفي جامع الصادق بالقفول الشيخ عبداللطيف المحمود مع السيدعبدالله الغريفي). أنا جداً سررت بعد الزيارة التي تشرفت مع عدد من الاخوة لجمعية الإصلاح وقد تلقيت بعدها رسائل متعددة كثيرة ومن الاخوة السنة كلها تؤيد وتشجيع وتعلن ارتياحها من هذا اللقاء وكذلك سمو أمير البلاد حفظه الله يشكر كثيراً ويؤيد هذه الخطوة المباركة.

المفتاح: الجمري محبوب من قبل الجميع

ثم تحدث الشيخ فريد المفتاح معقباً على كلمة الشيخ الجمري، ومعتبراً اللقاء خطوة عملية لتقليص هوة الخلافات… وأضاف «في الحقيقة نحن كما تفضل الشيخ الجمري سعداء أن نرى هذه اللقاءات وهذه الاجتماعات تحدث في مثل هذه الأيام سواء على هذا المستوى المصغر أو على المستوى الموسع بين الاتجاهات والجماعات بين أفراد الطائفتين (وان كنت لا أحبذ أن استعمل كلمة الطائفة لأننا كما تفضل الشيخ أمة واحدة لا يفرقنا شيء) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الفهم الراقي والعقل الراجح والفكر النير الذي يتميز به المواطن البحريني بأنه يستطيع أن يواكب متغيرات العصر ويستطيع أن يعايش قضايا العصر وهمومه ومشكلاته بنفسية قادرة على التغلب على كل ما يواجه مجتمعنا ويواجه أمتنا بكل كفاءة وقدرة وإيجابية وتحمل…

إن مثل هذه اللقاءات والاجتماعات تثلج الصدر وينبغي أن تشجع وان نعمل من أجل تكريسها والإكثار منها حتى نقلص من هوة الخلاف التي يتوهمها البعض. في واقع الأمر لا يوجد خلاف بيننا ولكن البعض ربما من الطائفتين يتوهم أن هناك خلافا، هذا الخلاف الذي لا حقيقة له وان كان يرجع ربما إلى وجهات نظر، هذه وجهات النظر قد وسعت من هم أفضل منا وقبلنا فلماذا لا تسع الأمة اليوم؟ لماذا لا نرجع إلى أصولنا وقضايانا المشتركة المتعددة التي ينبغي ان تكرس لها الأفكار وتكرس لها العقول والبحوث حتى نستطيع ان نصلح شأننا ومن ثم نتغلب على عدونا…

هذه ظاهرة صحية أن تحدث مثل هذه اللقاءات مع هؤلاء الأحباب مع هذه الوجوه النيرة مع سماحة الشيخ المحبوب من قبل الجميع.

نرجو الله أن يديم علينا مثل هذه المحبة، وان يكون التعاون والتواد والتكامل والمحبة هي التي لابد أن تنتشر بيننا مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»( المائدة:2). ورسول الله الكريم صلوات الله وسلامه عليه حينما بعث معاذا ومن معه إلى اليمن ماذا قال لهم في العبارة المشهورة؟ «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وتطاوعوا ولا تختلفوا» إذاً نهانا عن ذلك ودعانا إلى الوحدة. ونحن نرى الغرب الذين هم غير مسلمين يتحدون فيما بينهم ويتماسكون وتتكون هناك الكتل من أجل المصالح، وهذا لا يبعد عن الشخصية الإسلامية الرائدة التي تستطيع فعلاً أن تصنع التاريخ، تستطيع أن تصنع الأمم وان توحد الصفوف، نحن ينبغي أن نكون أفضل من غيرنا جميعاً نحن المسلمين حتى نستطيع ان نتوحد وان نرأب الصدع وان نتغلب على أخطائنا ولاشك في أن هذا سيصب في النهاية في منفعة الجميع وفي مصلحة الوطن وتماسكه وبذلك نكون حضاريين في التعامل حضاريين في السلوك. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقاً من بعده تفرقاً معصوماً ولا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماًً».

العريبي: تاريخ البحرين لا يعرف الطائفية

وتحدث في اللقاء الباحث علي العريبي، مشيراً الى ان تاريخ البحرين يشهد بوحدة الصفوف بين ابناء المجتمع الو احد، وأضاف «اننا اليوم حين تتكالب علينا قوى الشر بحاجة ماسة لرص صفوفنا لمواجهة الأخطار التي تداهمنا على المستوى الوطني وعلى مستوى الأمة الإسلامية ككل، وحينما نتحدث عن البحرين لنا تاريخ مشرف جداً على مستوى التعاون الإسلامي في هذه الأرض المعطاة، يمكن أن اتحدث عن البحرين قبل 800 سنة حينما كان هناك علماء أجلاء كالشيخ ميثم وأستاذه الفيلسوف علي بن سليمان هؤلاء الذين لم يعرفوا معنى للطائفية وإنما كرسوا جهودهم لصالح الامة الاسلامية والفكري الاسلامي…

أردت ان اكتب عن احدهم وهو الشيخ علي بن سليمان، فذاك لي أستاذ سويسري قائلاً: لقد قرأت مجموعة من كتبه فلم أجد فيه دليلاً على أنه شيعي… تصوروا عالماً يكتب مجموعة من الكتب لا توجد فيها إشارة الى مذهبه أهو شيعي أم سني؟ وتأثر الشيخ علي بن سليمان كثيراً بعلماء الأندلس السنة، وتأثر كثيراً بالإمام فخر الدين الرازي… اقرأوا للشيخ ميثم البحراني وكيف كان يجل فخر الدين الرازي إلى الحد الذي يجعله لا يصرح باسمه، يقول :قال الإمام رحمة الله…

سابقاً في صغري حينما اقرأ هذه الكلمات اتصور أنه يقصد أحد أئمة اهل البيت، الإمام علي مثلاً، أقول كيف يقول رحمه الله، ولا يقول عليه السلام كعادة الشيعة، ثم عرفت على أنه يعني الإمام فخر الدين الرازي، فتأثر بالفكر السني وتتلمذ على يد الشيخ ميثم مجموعة من علماء السنة فكان هناك تحاور على أساس الفكر الإسلامي لا على اساس الفكر المذهبي, القضايا التي كانوا يطرحونها قضايا عامة لا علاقة لها بالأمور المذهبية إلا نادراً، نادراً ما كانوا يتعرضون إلى هذه المسائل، أقول هنا في البحرين بدأنا مثل هذه التجربة وعشنا مثل هذه الأجواء واليوم بامكاننا حينما تكون الإدارة صادقة أن نردم الهوة التي فصلتنا ولأسباب لا تخفى عنكم، هناك أيد خفية لعبت دوراً سلبيا جداً في تمزيق صفوفنا كما يقول الوائلي (وغدت تصنفنا يد مسمومة متسنن هذا وذا متشيع).

الصحابة الأوائل الذين عاشوا مشكلة الخلافة كانوا يتعاونون فيما بينهم، الإمام مع انه يرى أحقيته في الخلافة لكنه عمل إلى جانب الخلفاء من أجل مصلحة الأمة، لا اسلمن ما سلمت أمور المسلمين، فلماذا لا نرفع هذا الشعار؟ الكل مطالب برفع هذا الشعار. والخلافات التي بيننا خلافات فقهيه جزئية إلى أبعد الحدود. ثقوا بأن الخلاف لا يتجاوز ثلاث أو اربع مسائل رئيسية، وباقي الفروع الخلاف بين الامامية وبين بقية المذاهب فالخلاف بين الشافعية والمالكية أو بين الحنفية والشافعية الذي يضخم هذه الخلافات هو عنصر الجهل، الشافعية والحنفية في فترة من الفترات كانوا لا يتزاوجون، كان يكفر بعضهم البعض الآخر وأريقت دماء في هذا الخلاف. فكذلك بالنسبة للشيعة والسنة الجهل هو الذي عمل على تبعيد المسافات بين المذهبين. يمكن أن نأخذ درساً من الاختلافات الدينية في العالم الغربي بين الكاثوليك والبروتستانت كذلك حكموا السيف بينهم وأبيدت قرى عن بكرة أبيها في العصور الوسطى، لكن العالم الغربي حينما انتبه من سباته تبين له أن هذه الأمور لا تحسم بحد السيف.

قضايانا فكرية تعالج بالفكر ولا تفسد للود قضية كما يقول المجنون العاقل أو يقول أحمد شوقي على لسانه، أبيات جميلة مجنون يعشق ليلى فيقبل عليها وكانت مع مجموعة من الفتيات فيتضاحكن حين يرين المجنون فيقول أحمد شوقي على لسانه «ما الذي أضحك الفتيات العامريات إلا أني أنا شيعي وليلى أموية اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، وفوق قول المجنون علينا بأن نأخذ بقول الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بالاعتصام.

زار سماحة العلامة المجاهد الشيخ عبدالامير الجمري (رحمه الله) عائلة الخاجة في مقابة بالمحافظة الشمالية بتاريخ 15 مايو/ايار 2001، وقد بدأت الزيارة بكلمة ترحيبية من العائلة ألقاها نيابة عنها خالد الخاجة امام عدد كبير من الحاضرين الذين كان بينهم علماء دين واساتذة جامعات ومهندسون ورجال اعمال ووجهاء وموظفون.

والقى كلمة ارتجالية بالمناسبة تحدث فيها عن ضرورة توحد الشعب بجميع فئاته واطيافه، كما استذكر يوم النكبة بعد ان سلبت «اسرائيل» ارض فلسطين وشردت ابناء تلك الارض، تبعتها كلمات الشيخ فريد يعقوب المفتاح، وعلي العريبي.

الخاجة: إزالة الحواجز الوهمية

وفي بداية اللقاء تحدث خالد الخاجة قائلاً «يسعدني أن أرحب بسماحة الشيخ عبدالأمير الجمري وأنجاله وصحبه الكرام على تفضلهم بزيارتنا في هذه الليلة السعيدة، الذي نكن لسماحته كل محبة وتقدير متمنين له التوفيق ودوام الصحة والعافية والأجر والثواب من الله لخدمة الدين القويم والوطن العزيز كما لاننسى جهوده الطيبة في لم الشمل وتوحيد الصفوف…

أيها الإخوة كم يسعدنا هذا اللقاء وكم يفرحنا هذا التقارب وإزالة الحواجز الوهمية، لأنه لا يمكن لأية أمة أن تتطور وتتقدم وقلوبها مختلفة، فلابد من تحديث الفكر الذي يقودنا إلى فهم أفكار الآخرين عبر ايجاد التقارب النفسي والحوار الأخلاقي الصادق وهذه ليست غريبة على مجتمعنا البحريني المبني على الاخوة وأواصر وعلاقات اجتماعية قوية ينبغي الحفاظ عليها، فلا يحق لأي فريق أن يدعي انه هو الإسلام ويكفر الآخر وانه هو الناطق الرسمي باسم السماء، فالإسلام ليس فيه كنيسة، والمذاهب في الإطار الإسلامي زهور في حقل الإسلام تتحاور بل تزين هذا الحقل لذلك ينبغي ان يكون رد فعلنا إسلامياً ووطنياً…

أيها الاخوة، اليوم يصادف الذكرى (53) لاغتصاب الصهاينة أرض فلسطين وإعلان قيام كيانهم الاستعماري الهمجي فيها العام 1948 واليوم يواجه شعبنا في فلسطين صنوفاً من القتل والتهجير والتشريد (قتل الشباب والأطفال والرضع) ويبقى هذا الشعب الصامد وحيداً في ساحة المعركة ينادي هل من ناصر ينصرنا هل من معين يعيننا، يذكرنا ذلك بموقف أبي عبدالله الحسين شهيد كربلاء ورمز التضحية والفداء فهل من معتبر؟. فأهلاً وسهلا بكم بين اهلكم واخوانكم والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.

الجمري: عزتنا في رص الصفوف

ما أحوجنا لتعميق شعور الوحدة وتراص الصفوف واجتماع الكلمة، بهذه الكلمات بدأ العلامة الجمري حديثه… وأضاف «ارجو ألا أكون مبالغاً إذا قلت بأن غبطتي بلقائكم تصل إلى القمة والى الذروة، لأني وأنا انعم مع الأبناء والأخوة بتلبية هذه الدعوة الكريمة من أخينا العزيز خالد الخاجة أشعر بأنني أعيش أسعد الساعات، لأن مقتضيات السعادة كلها متوافرة، فالتلاحم في الفكر والتوجه والشعور والتقارب بين القلوب والآمال والآلام، كل هذه جوامع تجمع بين نفوسنا وقلوبنا…

أحمد الله عز وجل الذي وفقني لهذا اللقاء الحبيب العزيز وما أحوجنا لمثل هذه اللقاءات، هذه اللقاءات لو كنا نعيشها في تاريخنا والفترات الزمنية السابقة لما تمكنت يد مهما كانت تمتلك من كيد وحيلة وقدرة على التهميش والاضعاف والتفريق لما تمكنت أن تضعف كلمتنا أو تمزق صفوفنا أو تفتت جهودنا، نحن نحمد الله اننا نعيش الآن أفضل مراحلنا وأحسن أوقاتنا، وأن حملة الاصلاح التي قادها سمو أمير البلاد حفظه الله قد بعثت للجميع العزم والثقة بالنفس، والأمل كبير جداً أننا نسير من فضل إلى أفضل ومن حسن إلى أحسن…

أحبتي… ما أحوجنا لتعميق هذا الشعور، شعور الوحدة، شعور تراص الصفوف، واجتماع الكلمة، لكي نفوت الفرصة على كل من يريد لهذه الأمة وهذا الشعب السوء وكل من يكيد لأمة محمد (ص)، ولكي نفتح آفاق نجني من خلالها الخير كل الخير، وأصدق الحديث هو القرآن ولقد قال سبحانه وتعالى «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» (آل عمران:103) وجاء عن الرسول الكريم (ص) قوله: «يد الله مع الجماعة» وما اعظمه من قول فهذا النبي العظيم علية الصلاة والسلام يعلنها صريحة بأن الذي يحظى بالقوة والتأييد والتسنيد هم الجماعة أما الأفراد أو المفترقون وهؤلاء يد الله ليست معهم يد الله مع الجماعة ما أعظم هذه المعية، هذه المعية التي تحدث عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما أعظم يد الله مع الجماعة، فإذا كانت يد الله معنا فنحن أقوى من أن نهزم، وأقوى من أن نذل، وأن هذا المعنى لو تربت عليه امتنا وحكوماتنا وشعوبنا، لما استطاعت دولة الصهاينة وهؤلاء الشذاذ، شذاذ الآفاق، أن يقفوا على قدمهم ساعة واحدة ولكن ساعدهم على تحقيق مآربهم تفرقنا. والآن نحن نعيش مناسبة أليمة جدا جدا تتحرك لها كل جروحنا ألا وهي يوم النكبة، ومناسبة النكبة عندما نكبنا في هذا القطر العزيز وهذه الأرض الإسلامية، نكبنا الصهاينة بالهجوم على فلسطين في مثل هذا اليوم سنة 1948، ولكن بالاعتماد على الله والتآزر والتعاون وصدق النوايا ستندحر «إسرائيل» ويندحر كل من ساند «إسرائيل» وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى، أستميحكم العذر أن كنت قد طلت عليكم ولكن الحديث معكم شيق جداً لأني أحس بالتعانق بين قلبي وقلوبكم ونفسي ونفوسكم والحمدلله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

أسئلة وأجوبة للشيخ الجمري

سؤال: أعلن أخيراً تشكيل لجنة للتنسيق بين الطائفتين أثناء زيارتكم التاريخية لجمعية الإصلاح، ما الأعمال أو الخطوات التي تمت بهذا الشأن حتى الآن؟

جواب الشيخ الجمري: أشعر بأن من النعم الكبرى بأنني وفقت بزيارة الاخوة الأعزاء في جمعية الإصلاح ورأيت فيهم وفي المقدمة الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة والإخوة العلماء والأساتذة كل حفاوة وتقدير ما يساعد الإنسان على الاستمرار في هذا الطريق، وجدتهم يحتضنون زائرهم ومن يحب لقاءهم بقلوبهم قبل صدورهم وقبل أيديهم، وأحمد الله عز وجل انني في آخر الخطاب الذي وفقت في إلقائه اقترحت تشكيل هذه اللجنة للتنسيق بين الطائفتين وأنا لا أحب أن أقول كما قال أخي الحبيب هذا الاسم لكن شيئا حصل، الآن نحن في طور التنسيق الاخوة حفظهم الله وضعوا تصورا ومن جانبنا أيضاً وضعنا تصورا, والآن إن شاء الله يدرس هذا التصور وذاك التصور حتى يؤخذ الشيء الذي تلتقي عنده الأفكار ثم يفعّل وتتخذ عناصر لهذه اللجنة وتعتمد بين الجميع ثم تتم ممارسة عملها ومهمتها في القريب العاجل إن شاء الله.

وأولى ثمرات هذا التنسيق بعد أسبوعين ستكون هناك إن شاء الله ندوتان بمناسبة المولد النبوي الشريف ليلة الاربعاء وليلة الخميس 13 – 14 ربيع الأول 1422 هـ (الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة مع الشيخ عيسى أحمد قاسم في بني جمرة في الجامع عندنا، وفي جامع الصادق بالقفول الشيخ عبداللطيف المحمود مع السيدعبدالله الغريفي). أنا جداً سررت بعد الزيارة التي تشرفت مع عدد من الاخوة لجمعية الإصلاح وقد تلقيت بعدها رسائل متعددة كثيرة ومن الاخوة السنة كلها تؤيد وتشجيع وتعلن ارتياحها من هذا اللقاء وكذلك سمو أمير البلاد حفظه الله يشكر كثيراً ويؤيد هذه الخطوة المباركة.

المفتاح: الجمري محبوب من قبل الجميع

ثم تحدث الشيخ فريد المفتاح معقباً على كلمة الشيخ الجمري، ومعتبراً اللقاء خطوة عملية لتقليص هوة الخلافات… وأضاف «في الحقيقة نحن كما تفضل الشيخ الجمري سعداء أن نرى هذه اللقاءات وهذه الاجتماعات تحدث في مثل هذه الأيام سواء على هذا المستوى المصغر أو على المستوى الموسع بين الاتجاهات والجماعات بين أفراد الطائفتين (وان كنت لا أحبذ أن استعمل كلمة الطائفة لأننا كما تفضل الشيخ أمة واحدة لا يفرقنا شيء) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الفهم الراقي والعقل الراجح والفكر النير الذي يتميز به المواطن البحريني بأنه يستطيع أن يواكب متغيرات العصر ويستطيع أن يعايش قضايا العصر وهمومه ومشكلاته بنفسية قادرة على التغلب على كل ما يواجه مجتمعنا ويواجه أمتنا بكل كفاءة وقدرة وإيجابية وتحمل…

إن مثل هذه اللقاءات والاجتماعات تثلج الصدر وينبغي أن تشجع وان نعمل من أجل تكريسها والإكثار منها حتى نقلص من هوة الخلاف التي يتوهمها البعض. في واقع الأمر لا يوجد خلاف بيننا ولكن البعض ربما من الطائفتين يتوهم أن هناك خلافا، هذا الخلاف الذي لا حقيقة له وان كان يرجع ربما إلى وجهات نظر، هذه وجهات النظر قد وسعت من هم أفضل منا وقبلنا فلماذا لا تسع الأمة اليوم؟ لماذا لا نرجع إلى أصولنا وقضايانا المشتركة المتعددة التي ينبغي ان تكرس لها الأفكار وتكرس لها العقول والبحوث حتى نستطيع ان نصلح شأننا ومن ثم نتغلب على عدونا…

هذه ظاهرة صحية أن تحدث مثل هذه اللقاءات مع هؤلاء الأحباب مع هذه الوجوه النيرة مع سماحة الشيخ المحبوب من قبل الجميع.

نرجو الله أن يديم علينا مثل هذه المحبة، وان يكون التعاون والتواد والتكامل والمحبة هي التي لابد أن تنتشر بيننا مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»( المائدة:2). ورسول الله الكريم صلوات الله وسلامه عليه حينما بعث معاذا ومن معه إلى اليمن ماذا قال لهم في العبارة المشهورة؟ «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وتطاوعوا ولا تختلفوا» إذاً نهانا عن ذلك ودعانا إلى الوحدة. ونحن نرى الغرب الذين هم غير مسلمين يتحدون فيما بينهم ويتماسكون وتتكون هناك الكتل من أجل المصالح، وهذا لا يبعد عن الشخصية الإسلامية الرائدة التي تستطيع فعلاً أن تصنع التاريخ، تستطيع أن تصنع الأمم وان توحد الصفوف، نحن ينبغي أن نكون أفضل من غيرنا جميعاً نحن المسلمين حتى نستطيع ان نتوحد وان نرأب الصدع وان نتغلب على أخطائنا ولاشك في أن هذا سيصب في النهاية في منفعة الجميع وفي مصلحة الوطن وتماسكه وبذلك نكون حضاريين في التعامل حضاريين في السلوك. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقاً من بعده تفرقاً معصوماً ولا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماًً».

العريبي: تاريخ البحرين لا يعرف الطائفية

وتحدث في اللقاء الباحث علي العريبي، مشيراً الى ان تاريخ البحرين يشهد بوحدة الصفوف بين ابناء المجتمع الو احد، وأضاف «اننا اليوم حين تتكالب علينا قوى الشر بحاجة ماسة لرص صفوفنا لمواجهة الأخطار التي تداهمنا على المستوى الوطني وعلى مستوى الأمة الإسلامية ككل، وحينما نتحدث عن البحرين لنا تاريخ مشرف جداً على مستوى التعاون الإسلامي في هذه الأرض المعطاة، يمكن أن اتحدث عن البحرين قبل 800 سنة حينما كان هناك علماء أجلاء كالشيخ ميثم وأستاذه الفيلسوف علي بن سليمان هؤلاء الذين لم يعرفوا معنى للطائفية وإنما كرسوا جهودهم لصالح الامة الاسلامية والفكري الاسلامي…

أردت ان اكتب عن احدهم وهو الشيخ علي بن سليمان، فذاك لي أستاذ سويسري قائلاً: لقد قرأت مجموعة من كتبه فلم أجد فيه دليلاً على أنه شيعي… تصوروا عالماً يكتب مجموعة من الكتب لا توجد فيها إشارة الى مذهبه أهو شيعي أم سني؟ وتأثر الشيخ علي بن سليمان كثيراً بعلماء الأندلس السنة، وتأثر كثيراً بالإمام فخر الدين الرازي… اقرأوا للشيخ ميثم البحراني وكيف كان يجل فخر الدين الرازي إلى الحد الذي يجعله لا يصرح باسمه، يقول :قال الإمام رحمة الله…

سابقاً في صغري حينما اقرأ هذه الكلمات اتصور أنه يقصد أحد أئمة اهل البيت، الإمام علي مثلاً، أقول كيف يقول رحمه الله، ولا يقول عليه السلام كعادة الشيعة، ثم عرفت على أنه يعني الإمام فخر الدين الرازي، فتأثر بالفكر السني وتتلمذ على يد الشيخ ميثم مجموعة من علماء السنة فكان هناك تحاور على أساس الفكر الإسلامي لا على اساس الفكر المذهبي, القضايا التي كانوا يطرحونها قضايا عامة لا علاقة لها بالأمور المذهبية إلا نادراً، نادراً ما كانوا يتعرضون إلى هذه المسائل، أقول هنا في البحرين بدأنا مثل هذه التجربة وعشنا مثل هذه الأجواء واليوم بامكاننا حينما تكون الإدارة صادقة أن نردم الهوة التي فصلتنا ولأسباب لا تخفى عنكم، هناك أيد خفية لعبت دوراً سلبيا جداً في تمزيق صفوفنا كما يقول الوائلي (وغدت تصنفنا يد مسمومة متسنن هذا وذا متشيع).

الصحابة الأوائل الذين عاشوا مشكلة الخلافة كانوا يتعاونون فيما بينهم، الإمام مع انه يرى أحقيته في الخلافة لكنه عمل إلى جانب الخلفاء من أجل مصلحة الأمة، لا اسلمن ما سلمت أمور المسلمين، فلماذا لا نرفع هذا الشعار؟ الكل مطالب برفع هذا الشعار. والخلافات التي بيننا خلافات فقهيه جزئية إلى أبعد الحدود. ثقوا بأن الخلاف لا يتجاوز ثلاث أو اربع مسائل رئيسية، وباقي الفروع الخلاف بين الامامية وبين بقية المذاهب فالخلاف بين الشافعية والمالكية أو بين الحنفية والشافعية الذي يضخم هذه الخلافات هو عنصر الجهل، الشافعية والحنفية في فترة من الفترات كانوا لا يتزاوجون، كان يكفر بعضهم البعض الآخر وأريقت دماء في هذا الخلاف. فكذلك بالنسبة للشيعة والسنة الجهل هو الذي عمل على تبعيد المسافات بين المذهبين. يمكن أن نأخذ درساً من الاختلافات الدينية في العالم الغربي بين الكاثوليك والبروتستانت كذلك حكموا السيف بينهم وأبيدت قرى عن بكرة أبيها في العصور الوسطى، لكن العالم الغربي حينما انتبه من سباته تبين له أن هذه الأمور لا تحسم بحد السيف.

قضايانا فكرية تعالج بالفكر ولا تفسد للود قضية كما يقول المجنون العاقل أو يقول أحمد شوقي على لسانه، أبيات جميلة مجنون يعشق ليلى فيقبل عليها وكانت مع مجموعة من الفتيات فيتضاحكن حين يرين المجنون فيقول أحمد شوقي على لسانه «ما الذي أضحك الفتيات العامريات إلا أني أنا شيعي وليلى أموية اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، وفوق قول المجنون علينا بأن نأخذ بقول الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بالاعتصام.

 

 

 

ما قاله عيسى بن محمد في عبدالأمير الجمري

بسم الله الرحمن الرحيم، «إن إبراهيم كان أمة قانتاً للهِ حنيفاً ولم يك من المشركين، شاكراً لأنعمهِ اجتباهُ وهداهُ إلى صراطٍ مستقيم، وآتيناهُ في الدنيا حسنةً وإنه في الآخرة لمن الصالحين» صدق الله العظيم… (النحل: 122).

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبدالله رسوله وصفيه من خلقه وخليله، وعلى آله وصحابته وتابعيه إلى يوم الدين وبعد…

فقد أثبت ربي في قرآنه العزيز الصفة التي يرضاها لعباده الصالحين فذكر لنا إبراهيم أنه كان أمة وبذلك وجد لنا المثل للعبد الصالح لنقترب منه كلما أخلصنا النية لله وخلصنا أنفسنا من العبودية لغير الله… وألوان العبودية لغير الله كثيرة للمال والجاه والسلطة ونعيم الدنيا الزائل. وحسبي أن أقول إن شيخي عبدالأمير الجمري كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين… ولا أزكي على الله أحداً ولكن هكذا عرفت الرجل في أعز المواقع، عضواً في المجالس التشريعية، وعضواً على منصة القضاء وأسيراً مكبلاً بالأصفاد… كله لله شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم… خرج من السجن مرفوع الهامة عالي الرأس لا يضعه إلا لله وتفضل علينا بالقدوم إلى جمعية الإصلاح يسبق تلاميذه ومحبيه هاتفين بالصلاة والسلام على محمد وآل محمد… وترك لنا الشيخ عبدالأمير الجمري رسالة يجب أن تؤدى وهي توثيق عرى الأخوة الوطنية بين السنة والشيعة بل السعي إلى إيجاد المرجعية الفقهية المشتركة بين الطائفتين وهي لعمري رسالة الحاضر والمستقبل من علماء هذه الدولة المخلصين لجعل هذا الحلم حقيقة تجمع المؤمنين في هذه المملكة المنصورة في رؤية اجتهادية واحدة وأسوتنا في ذلك أوائل علماء هذه الأمة فقد تتلمذ مالك بن أنس رضي الله عنه على يد أستاذه الإمام جعفر الصادق (ع) وإنها لرسالة جزاؤها كما قال ربنا سبحانه وتعالى «وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين» صدق الله العظيم (النحل:122)

الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة

 

 

مقتطفات من مذكرات وخواطر الشيخ الجمري فترة سجنه

كان للشيخ الجمري فترة سجنه (يناير 1996 الى يوليو 1999) أن يكتب الكثير من الخواطر التي تحكي معانات شعبه وحبه لهم، أو اشتياقه إلى زوجته وإلى أبنائه، كما كان له أن يستثمر ما يجلب له من ورق في كتابة الشعر في أهل البيت (ع)، وخصوصاً في حادثة كربلاء.

تمثل المخطوطات التي تركها الشيخ كنزا ثميناً وشاهداً على ما عاناه من وجع وألم فترات اعتقاله، وتنشر «الوسط» احدى هذه الإفاضات للراحل الكبير، ومن بينها مرثية كتبها فترة السجن على أوراق ومحارم ورقية وعلى قطع من أكياس النايلون.

تحتوي الرسائل على الكثير من الكلمات التي كانت تدعو إلى الصبر والتحمل والتضحية في سبيل الحق الذي يطالب به أبناء البحرين. ولقد صادر جهاز المخابرات كثيراً من القصائد السياسية والرسائل والمذكرات وبقيت قصاصات استطاع الشيخ الجمري إخراجها لاحقاً.

 

 

أجزاء من الشعر الحسيني الذي نظمه الشيخ الجمري في السجن

بدأت باسم الله تعالى النظم في 28/ج1/ 1417هـ

حسين الخلود أبا الثأرين

ويا مشعل الدرب للسائرين

حسين وما أعذب اسم الحسين

وأعظم شوقي له والحنين

سفين النجاة جمال الحياة

وقبلة أحرارها الصامدين

ومن سن للناس نهج الابا

واطروحة الرفض للظالمين

ومن كتب النصر حتى النشور

لدين الهدى بدماء الوتين

فداؤك روحي يا بن البتول

وأرواح أهلي والعالمين

مصابك بالطف أقسى مصاب

دهى بيضة الدين والمسلمين

لتصويره ضاق عن البيان

وخطب كذا يخرس الناطقين

فجائع يومك يا سيدي

كأسراره تعجز الذاكرين

وإن شئت ذكر الخطوب العظام

فأياً أقدمه يا حسين

(وبعد هذا البيت توقفت عن النظم ثم واصلت بتاريخ 22/ شعبان/ 1417هـ)

أرى كل خطب عظيماً له

تسيل مدمعها كل عين

وإني لمستأذن سيدي

ومستلهم منك نوراً مبين

لذكر الحوادث في ثورة

بها وضح الحق للطالبين

بملحمة ان تفز بالقبول

فذاك مرامي الثمين

ـــــــــ

أراد ابن هند يزيد الفجور

ورمز الأراذل والساقطين

من ابن البتول حسين الفخار

وحارس شرع النبي الأمين

مبايعة وهي المستحيل

فأنى يبايع مثل الحسين

وكيف يبايع من للأباة

هو القدوة الحق والصادقين

فأعلى سبط الهدى رفضه

مبايعة الرمز للمجرمين

ولعلع صوت الابا والصمود

بصرخة ذي عزة لا يلين

صداها يدوي بسمع الزمان

ويسقط أسطورة الظالمين

لأمر محال خضوعي لهم

فهيهات منا يذل الجبين

أبى الله ذاك لنا والرسول

كذا الأب والأم والمؤمنون

ــــــــ

ومذ رفض السبط لم يك في

مدينة طاها من الآمنين

فرام مغادرة للديار

باخوته والنساء والبنين

وودع قبر النبي العظيم

وفاطمة والزكي الأمين

وعفر خديه فوق القبور

بحزن عميق ودمع سخين

وسار بأسرته قاصداً

إلى مكة مأمن القاصدين

وثمة صفت جموع الحجيج

بخير الورى قائد المؤمنين

وأني لهم مثل سبط الرسول

بناطق حق منير مبين

ـــــــ

هذه (أعلاه) أول مقطوعة من الملحمة نقلتها من المسودات التالفة وأسأله سبحان أن يعيد إليّ جميع قصائدي وأوراقي.

ـــــــ

ومن المسودات: إني آمل في أن تقرأ الملحمة في المواكب نظير قصيدة الدمستاني قدس سره (أحرم الحجاج إلخ) فقد نظمت فقرتين يرددهما المعزون وهما:

حسين حسين حسين حسين

فداؤك أرواحنا يا حسين

ـــــــ

ومن المسودات ما يأتي وهو يخص موقف أهل بيت الحسين (ع) يوم كربلاء وجهاد الأكبر (ع) ومصرعه:

ويالك موقفهم موقف

له الدهر طأطأ من الجبين

بأسيافهم صنعوا المعجزات

وأرض الطفوف من الشاهدين

فقد ملأوا سطحها بالجسوم

إلى حيث كاد بألا يبين

ـــــــ

وكان شبيه النبي العظيم

لمصرعة أول البارزين

بخَلق وخُلق وفي منطق

بحق حكى خاتم المرسلين

وفي حملات قل الجموع

حكى حيدراً بطل المسلمين

وفي قصر العمر قد اشبه

البتول أجل نسا العالمين

كما اشبه المجتبى في السماح

وهيبته وسخاء اليدين

واشبه والده في الابا

ورفض الخضوع إلى الظالمين

ـــــــــ

ويالكِ من ساعة للوداع

بها قد علا للنساء الحنين

بها السبط صار بحال احتضار

وعيناه فاضا بدمع سخين

وزين العباد وعمته

العقيلة صارا بها والهين

وبعد الوداع إلى الجمع سار

فكان لهم أفضل الواعظين

ولكن اصروا على

البغي والشقا وعلى طاعة الكافرين

ـــــــ

فصال عليهم شبيه النبي

واردى الاشاوس والمعلمين

ولكن ظماه ودرع الحديد

لمهجته أصبحا لاهبين

فجاء لوالده طالبا

قليلاً في الماء شبل الحسين

فألقمه السبط من اللسان

وتم بذا ملتقى يابسين

فعاد علي بذاك الظما

ليبلغ قتلاه للمائتين

وبينا يقاتل روحي فداه

ببأس شديد وعزم رصين

ويقلب ميمنة لليسار

ويقلب ميسرة لليمين

وقلبا جناحين إذ منفذ

بصارمه شق من الجبين

أتاه من الظهر لا من أمام

فليت القضا شل من اليمين

ومذ قنع السيف رأس الشباب

على عنق المهر ألوى اليدين

ومذ فوق ناصية المهر صار

بنفسي رأس أعز البنين

على عيني المهر سالت دماه

ففر به آه للظالمين

فقطعه حينها المجرمون

ويالك من قسوة المجرمين

واذ بلغت روح بدر الدجى

التراقي نادى أبي يا حسين

سقاني الذوا روي الشراب

واهنأه خاتم المرسلين

وقد ذخرت لك أوفى الكؤوس

فعجل فذاك حشا العالمين

ومذ سمع السبط فوراً أتاه

وحالته تعجز الواصفين

فألقاه منعفراً في التراب

فأهوى عليه بقلب حزين

وأطلقها صيحة في الفضاء

مفجرة بالدماء كل عين

بنيّ على ذي الحياة العفا

بقتلك قد افجعوا الوالدين

ولكن أباك سريع اللحاق

وتصبح أمك صفر اليدين

لها الله من تأكل نابها

مصاب له الصخر حقاً يلين

وقال لفتيانه دونكم

خذوه لعماته مسرعين

وقيل اتى بشبيه الرسول

على صدره للنساء الحسين

ويالكِ من ساعة زلزل

البسيطة فيها البكاء والحنين

 ــــــــ

وصار بنو هاشم يحملون

فتى ففتى صبراً مخلصين

وقد كان همهم الفوز بالشهادة يومئذ أجمعين

ولولاه لم يسمحوا ان يعود

من القوم بعضهم سالمين

أطاشوا العقول وصرن الخيول

تدوس على جثت المعتدين

أضاءت وجوهم والسيوف

لليل القتال مع الظالمين

صغيرهم جمرة لا تداس

لذا الحرب إذ تحرق الواطئين

كبيرهم أبداً لا يقاس

بأي شخص من الآخرين

ـــــــ

يأتي بعد هذا البيت قولي:

 وهاك مثالين عظيمين ذا

صغير وقد بهر الناظرين

وصاح الغلام إلى أعماه ذا الورى

شبيه أخيك دهاه المنون

 

 

كان الوطن يتمشى على حافة منزلق من الطائفية والانزياح إلى العمى

عبدالأمير الجمري… بصير الحياة والموت

الوسط – عادل مرزوق

قبيل الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2006 كانت البحرين تمشي لمنزلقات المهلكة في مسرح سياسي طائفي بغيض. فجأة، ألقى الشيخ عبدالأمير الجمري بأنفاسه الأخيرة في الفضاء، تلقت انفاسه رئات الناس. وقاسمتهم فيها «البحرين» كطفلة صغيرة. الناس تذكروا الحياة وتزودوا بالصبر. أما الطفلة الصغيرة فقد أنشدت جوقتها… تقول: «… فأنقذكم الله بأبي… ».

لم تكن وفاة سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري اعتيادية في توقيتها بالنسبة إلى الشارع السياسي في البحرين. حساسية التوقيت هذه أعطت وفاة الشيخ دلالات وإشارات دقيقة. أما الاحتشاد الشعبي الكبير في وداعه فقد بعث رسائل عدة بات من المهم أن يعي الجميع دلالاتها ومضامينها.

لابد أن يكون المرور من مساحة الفقد بعد أربعين يوماً مروراً متأنياً في قراءة نضالات الرجل ودوره في الحركة المطلبية وتضحياته الجسام التي قدمها في مسيرته الوطنية من جهة، ومتأنياً أيضاً في قراءة واستخلاص تأثيرات هذه الشخصية الفريدة من نوعها على الوطن، والتي مازلنا نعيش حوادثها.

لقد مثلت الحركة المطلبية في التسعينات من القرن الماضي منعطفاً مهماً في تاريخ البحرين الحديث، وكان لنضالات الشيخ الجمري أن تكون مسرح هذه الحركة ومركزها الأهم باعتراف الاطراف التي عاصرت تلك المرحلة وكانت فاعلة فيها. وكان للشيخ أيضاً أن يلعب دوراً تاريخياً في صوغ مرحلة جديدة من الحياة السياسية هنا في البحرين.

الأبعد من ذلك، أن الشيخ الجمري كان يمثل حالاً من الاتزان السياسي للمعارضة آنذاك. وكان خطابه الوطني المكتمل العناصر قادراً على توجيه المعارضة في طريقها الصحيح من دون أن تنزاح، أو أن يتعرض برنامجها للتسميم أو الاغتيال الطائفي.

لابد من وقفة تقدير كبرى للشيخ الجمري في ذكرى رحيله. هذا الوقوف هو لمقاومته الكبرى لأية محاولات تشويه كان البعض يحاول ترويجها عن المعارضة ورموزها السياسية داخل البحرين وخارجها.

الفترة التي ابتعد فيها الشيخ الجمري عن ممارسة دوره السياسي بسبب مرضه أفرزت منعطفات عدة من التأزيم السياسي المفتعل. ولاشك في أن قرار مقاطعة التحالف الرباعي لجمعيات المعارضة الانتخابات النيابية في العام 2002 كان قد أعطى هذه الأطراف الفرصة الكافية وعلى مدى أربع سنوات مضت لصوغ مرحلة جديدة للحركة السياسية في البلاد. هذه المرحلة الجديدة كانت المعارضة ورموزها ومؤسساتها تحديداً هي المستهدف الرئيسي فيها. وجهة النظر هذه تعتبر متفائلة جداً مقارنة بآراء أخرى تصب فيما هو أكثر من ذلك، وأصعب.

إذاً، كان الخطاب السياسي الوطني التوجه هو أبرز ما تميز به الراحل الكبير فترات تصدره دفة المعارضة السياسية في البحرين إبان الحركة المطلبية في التسعينات.

لقد كان الخطاب السياسي للشيخ الجمري قادراً على أن يكون انسيابياً في اوساط الجماهير في البحرين ومتمركزاً بتأقلم فريد مع أبجديات الحراك السياسي في طابعه المدني، وفي السياق ذاته كان الجمري ممسكاً على مستوى التأسيس الخطابي والاجتماعي بخيوط أسلمة خطابه وجمهوره وتوجيهه وفق البعد الأيديولوجي الذي خرج منه الشيخ وصب طاقاته فيه.

وفاة الشيخ… الحفاظ على البحرين مرة أخرى

كانت وفاة الشيخ الجمري في الثامن عشر من ديسمبر 2006 عاملاً في حفظ توازن جسم المعارضة، والذي كان قاب قوسين أو ادنى من الاهتزاز. لقد اعطى الشيخ الجمري في يوم وفاته مساهمته الأخيرة في عملية الإصلاح السياسي في البحرين.

الاحتشاد الجماهيري في ليلة مواراة سماحة الشيخ الجمري الثرى كان الأكبر في تاريخ البحرين، وكان ورقة الإنقاذ التي كانت المعارضة في أوج حاجتها لها. كانت وفاة الشيخ كذلك ورقة إنقاذ أخرى لبعض الأطراف السياسية في البلاد، والتي كانت عبر مخططاتها تسعى فيما تسعى إلى نقل الحراك السياسي من الملعب السياسي المتضمن احتمالات الربح والخسارة إلى الملعب الطائفي.

هذه القوى كانت ومازالت تعتقد بأن ملعب «الطائفية» هو ملعبها المثالي للربح، وبتجاوز أنها مخطئة في خيارها كان راحلنا الكبير المنقذ لهذه الجماعات من أن تبعث البحرين إلى ملعب الطائفية حيث لا رابح هناك فالجميع خاسرون. ماخلا المراهنين على مصادرة الآخر، واغتياله من الوطن جسداً وروحاً.

عاد الجمري نفسه صاحب الخطابات الوطنية الكبرى في التسعينات ليعيد العمل السياسي في البحرين لسياقاته الطبيعية. عاد في وفاته ليقدم للبحرين فرصة من فرص تجاوز المناطق الفارغة بين الأطراف السياسية ليجعل فرص الالتقاء الوطني قائمة وممكنة.

الممكن الذي آمن به الجمري في التسعينات بعثه من جديد لنا في يوم وفاته. أما المؤمل منا حيال ذلك فهو استنهاض هذا الحضور الكريم لهذه الشخصية والرجوع لوحيها كلما أزفت بنا مستجدات السياسة. الممكن الذي آمن به الجمري هو الممكن الذي آمن به عبدالرحمن الباكر إبان تأسيس هيئة الاتحاد الوطني، اليوم ونحن نحيي ذكرى الشيخ الجمري فإننا نبدأ بإعلان هذا الراحل الكبير كأحد الأسماء الوطنية الكبرى في تاريخ البحرين.

لابد أن يكون إحياؤنا لأربعين سماحة الشيخ الجمري إيذاناً بإشهار ذكرى هذه الشخصية كقاسم مشترك جديد للبحرين. ننتظر جميعاً من مؤسسات المجتمع المدني كافة أن تكون فاعلة في توظيف ذكرى وفاة الشيخ في العام المقبل كمناسبة وطنية سنوية تكون رافدا في تعزيز الإخاء الوطني بين أبناء البحرين قاطبة.

ترتكز دعوتنا إلى اعتبار ذكرى وفاة سماحة الشيخ الجمري يوما من أيام البحرين الوطنية على الكثير من المؤشرات السلبية في حراكنا السياسي. وليست الحوادث التي عصفت بالبحرين نهاية السنة الماضية إلا دلالات من الشؤم الذي يلف بنا.

طبيعة هذه المتغيرات الطارئة تقتضي أن تكون ذكرى الشيخ الجمري فينا الذكرى التي نستشف منها فضاءات الوحدة الوطنية، والإصرار على المسير قدماً في مسيرة الإصلاح السياسي الذي مازلنا نأمل منه لأبناء البحرين الكثير من الإنجازات.

لابد من أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة استكمال لمشروع لمّا يكتمل. هذا النقص الذي ساهم الوضع الإقليمي (الطائفي) فيه كاد أن يكون المحرك الرئيسي لمجمل مسرحنا السياسي… والذي أنقذنا الشيخ عبدالامير الجمري من الوقوع فيه.

لماذا كان الشيخ الجمري يمثل سداً منيعاً في شخصيته أمام أي طرف يسعى إلى طأفنة مسرحنا السياسي؟ هذا ما يتطلب منا قراءة ذكراه ومراحل حياته ونشاطه السياسي باهتمام بالغ، وألا نمر عليها مرور الكرام.

نمر من ذكرى أربعين الشيخ الجمري نستذكر تلك الحشود التي قاومت برودة الطقس والمسافات الطويلة. ونستذكر مساحات النضال وأيام الكرب التي مر بها الشيخ وأبناء البحرين فنحمل منه انفاسه الكريمة قوتاً على التصبر. بصير كان عبدالأمير الجمري في حياته، وكان كذلك في الموت.

 

 

أول مقابلة صحافية مع زوجة الشيخ عبدالأمير الجمري

أم جميل: بعد 49 عاماً… لايزال الشيخ الجمري معي

الوسط – ندى الوادي

«لم يرحل الشيخ، إنه باق معي، يرافقني، وجهه في كل تفاصيل يومي الدقيقة، أسمع صوته يناديني: وردية… زهور، يدللني بها، ويراضيني، ويحن علي… إلى متى ستقضي أيامك بعيداً عني خارج المنزل مشغولاً بالسياسة؟، أقول مازحة: لن أسامحك، فيرد علي مازحاً: أعرف أنك ستسامحينني، لا يمكنك أن تزعلي مني أبداً…». دفء غريب كان يطل من عينيها وهي تقول هذه الكلمات، تقتنع معه أن الشيخ لايزال معها فعلاً، وكأنما لايزال يسمعها، ويناديها، ويتحاور معها. صوت يملؤه حنان الدنيا كلها، ببساطته يأسرك، ويجعلك تقول «لا عجب أن يكون الشيخ عبدالأمير الجمري أحبها كل ذلك الحب».

إنها زهراء بنت الملا يوسف الملا عطية بن علي بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن مكي بن الشيخ سليمان بن مكي الجمري، أو كما يعرفها الناس بـ «أم جميل»، زوجة الراحل الشيخ عبدالأمير بن منصور بن محمد بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن مكي بن الشيخ سليمان بن مكي الجمري، ورفيقة نضاله الطويل. 49 عاماً من حياتها قضتها أم جميل مع الراحل، تزوجته في السادسة عشرة من عمرها، سافرت معه إلى العراق، وعاشت معه فترات نضاله، ولازمته في السنوات الخمس الأخيرة التي قضاها في المرض، حتى وفاته في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006. وهذه هي قصتها معه، تحكيها بلسانها في أول حديث صحافي لها، حديث الذكريات.

زهراء … لعبدالأمير

تقول أم جميل: «كان الشيخ ابن عمي، وكنا نعرف بعضنا منذ الصغر، وعندما تقدم طالبا يدي، قال أبي الملا يوسف كلمته: زهراء لعبدالأمير، وهذا ما كان. وافقت على الزواج لأنني وعيت على الدنيا وأنا أعرف أنني سأتزوجه، كان يقطن في منزل عمي المقابل لمنزلنا، ولم يكن لدي أي مانع من الزواج منه». يسترخي صوتها قليلاً، لتستذكر مرحلة ظنت أنها نسيتها، وتضيف «في بداية علاقتنا الزوجية كنا كباقي الناس، همومنا الزوجية تضغط علينا كل دقيقة، كان عمري 16 سنة، وكان عمره 20 سنة، كانت حياتنا في أيامها الأولى قاسية جدا، حتى أننا كنا نصل أحياناً للطلاق. ثم عزم الشيخ الجمري على الذهاب إلى النجف، ونصحتني والدتي (سلمى بنت الشهيد الشيخ عبدالله العرب رحمها الله) بالذهاب معه، وعلى رغم عدم موافقة أبي الملا يوسف وجدي الملا عطية على ذهابي معه، لأنه لم يكن يمتلك أي مورد رزق هناك، ولأنني لن أتمكن من الحياة في الغربة وفي الفقر، فإنني صممت على السفر معه». هنا بدأت مرحلة أخرى من حياتهما معاً، زهراء وعبدالأمير… كانا قد انجبا محمدجميل، وعمره آنذاك 3 سنوات ومنصور، وعمره عدة أشهر… الى النجف الاشرف في العام 1962.

النجف وبداية جديدة

بداية جديدة تلك التي عاشتها أم جميل مع الشيخ الجمري في النجف، والتي بدأتها في العام 1962 بداية تأسيس عائلتها، وامتزاجها في حياة الشيخ الجديدة كخطيب حسيني ثم طالب علم. تقول أم جميل: «ذهبنا إلى العراق أول مرة بالباخرة، رافقتنا أخت الشيخ في المرة الأولى حتى تدبرنا أمورنا واستأجرنا منزلاً للسكن، وبقينا لبعض الأشهر، ثم عدنا إلى البحرين، بقينا لعدد آخر من الأشهر ثم سافرنا مرة أخرى إلى النجف، وتابعنا هكذا نتنقل بين البحرين والنجف. كان الشيخ يقرأ تارة في البحرين وتارة في النجف، وكنا نتدبر أمورنا بالمبالغ التي يحصلها من القراءة الحسينية أساسا. كان أجره من المنبر الحسيني يصل إلى 80 ديناراً عراقياً في شهر محرم (الدينار العراقي آنذاك كان يعادل تقريباً الدينار البحريني)، وكان هذا المبلغ جيداًَ جداً في تلك الفترة وكان يعيننا لعدة أشهر، وكان يكفل لنا سبل العيش. كما كانت ادارة الأوقاف الجعفرية تمنح الطلبة البحرينيين مبلغاً وقدره 10 دنانير بحرينية شهرياً، فكنا نحصل على 30 ديناراً كل 3 أشهر، وهو الأمر الذي كفل لنا الاستقرار والهدوء».

أحبت أم جميل الحياة في العراق، وكانت تستمتع بها كما تستمتع بالحياة في البحرين، بدا ذلك واضحاً في ملامحها المبتسمة وهي تقول «كانت علاقتنا مع الطلبة البحرينيين هناك رائعة، كنا جميعاً كعائلة واحدة، الكل مرتبط بالآخر، نساعد بعضنا البعض، ونأكل مع بعضنا بعضاً، وكانت علاقة الشيخ قوية بشكل خاص بعائلة الإمام محسن الحكيم والشيخ محمد أمين زين الدين والسيد محمد باقر الصدر، والعلامة محسن الغروي، والسيد علاء بحر العلوم. تدبرت أموري في النجف حتى صار الشيخ يتركني أحياناً هناك لينزل إلى البحرين لوحده يعتلي المنبر الحسيني فيها ويعود إلينا أنا والأولاد الذين عاشوا معنا في النجف (جميل ومنصور، ولاحقاً: عفاف وصادق ومحمد حسين ولؤي ومنصورة) مرة أخرى. كنت أعرف كيف أتصرف في أمور الحياة وحدي هناك، فحتى مع وجود الشيخ معي كنت المسئولة الرئيسية عن كل أمور المعيشة الخاصة بالعائلة، ولم يحضر أي زائر من البحرين إلا وزار بيتنا على غداء أو عشاء، كان الشيخ يحب أن يدعو الناس لمنزله، وكنت مستعدة دائماً». وعن علاقته بالمنبر الحسيني تقول أم جميل «كان الشيخ خطيباً على المنبر الحسيني منذ كان عمره 15 سنة، وكنت أرفض أن يشغل نفسه بالخطابة، كنت دائماًً أقول له: ألا تكفيك السياسة والشعر، حتى تشغل نفسك بالمنبر أيضاً، حاول أن تريح نفسك من الخطابة واكتفِ بقراءة المحاضرات على الأقل، لكنه كان دائماً يرفض، واستمر في الخطابة حتى خرج من السجن آخر مرة في العام 2001 حين توقف عن الخطابة وصار يعد بحوثاً ومحاضرات فقط».

غير أن صبر أم جميل طال، وشعرت بالحنين للأهل والأحباب في البحرين، وبمرارة الغربة بعد كل هذه السنوات. تقول «كان الفراق صعباً، والاتصال بالأهل كان أيضاً صعباً، لم تكن هناك مكالمات هاتفية، كما أن الرسائل كانت تصل بعد ثلاثة أسابيع، وكنت دائماً أفكر في الرجوع للبحرين، ألححت على الشيخ بأن نعود للبحرين، وأخبرته بأنني تعبت من الغربة كثيراً، لكنه لم يقبل الرجوع، إذ كان يريد البقاء لكي يحضر بحوثاً للسيد محمد باقر الصدر، وبعد أن تعب من إلحاحي أرسل لي زوجة السيد جواد الوداعي لتقنعني بالبقاء، وكنت أحترم هذه السيدة وأجلها كثيراً، فاقتنعت بكلامها وبقيت صابرة، لفترة أخرى».

الرجوع إلى البحرين العام 1973

11 سنة قضتها أم جميل في مصاحبة الشيخ الجمري والعائلة في النجف، لم تنتهِ إلا بعد أن أرسل البحرينيون في طلبه من العراق للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني. فكانت العودة في العام 1973… تقول أم جميل: «عندما طلبه الناس في البحرين ذهب ليأخذ الرخصة من السيد محمد باقر الصدر (أستاذه في تلك الفترة) والشيخ محمد أمين زين الدين (المرجع الديني البحريني الأصل)، ووافقا على ذهابه مادام الناس في البحرين بحاجته. لم يكن غريباً علي أن يشترك في هذا المشروع السياسي، إذ كان الشيخ مرتبطاً بالسياسة منذ صغره، فما بالك بعدما ذهب إلى العراق وتعلم على يد علماء كبار، ثم إننا فضلنا العودة إلى البحرين لأن النظام البعثي كان قد بدأ يعتقل بعض الطلبة غير العراقيين في النجف، وسمعنا لاحقا أن الشيخ عبدالأمير على القائمة أيضا، ولذلك كانت العودة للبحرين هي أفضل الحلول».

عاد الشيخ بعائلته إذاً إلى البحرين في 1973. لم يكن الاستقرار سهلاً في البداية؛ فالعائلة تعودت على الحياة في النجف الاشرف، واحتاجت إلى وقت قبل أن يتم ترميم المنزل القديم، غير أن الرجوع للبحرين لم يكن نهاية، بل كان بداية لنضال طويل مرير، كانت فيه أم جميل بطلة بكل المقاييس.

«اللي فيها فيها»

«لا تكن رأساً دائماً، فالضربة دائماً تأتي في الرأس»، كانت هذه هي نصيحة أم جميل المتكررة للشيخ، كانت تخاف عليه، لكنها تؤيده، تطلب منه أن يلزم لسانه، ويخاف على نفسه، لكنها تشجع إصراره، وتؤمن بصواب مواقفه، وتقف معه، مهما كان الثمن. رجعت برأسها للخلف وكأنما تتذكر وهي تقول «كان الشيخ يتناقش معي في كثير من شئونه، وكنت أؤيد إصراره ونضاله، وأشجعه وأقوي من عزيمته، وكان يستجيب لآرائي كثيراً، كان يقول إن آرائي تفيده، لكنه أبداً لم يقبل التنازل عن مواقفه، حتى عندما كنت خائفة عليه، كنت أطلب منه ألا يكون رأساً فيضرب، فأبى إلا أن يكون الرأس عندما احتاجه الناس، وكان يقول لي دائماً: (منذ خلقني الله تعالى وأنا استجيب للناس، حتى تأتي على رأسي الضربة هذا قدري). وعندما كنت أطلب منه أن يلزم لسانه، ويخاف على نفسه كان يقول لي كلمته المكررة: (اللي فيها فيها)… عانى الشيخ الكثير، وخصوصاً من القريبين منه، كان كثيراً ما يأتي إلي ليشكو ضيقه مما يقوم به أقرب الأقرباء منه، كنت أهدئه وأقوي من عزيمته، ولم يكن يهدئه إلا حد يثي».

في الحصار: على رغم تعبي فضلت أن نكمل المشوار

عاشت أم جميل مع عائلتها تجربة قلما يمكن أن يعيشها أحد إلا وفقد صبره، وقوته، وثباته. تلك كانت فترة «الحصار». إذ حوصر منزل الشيخ عبدالأمير الجمري وعائلته في حوادث التسعينات لمدة اسبوعين اولاً من 1 أبريل الى 15 أبريل 1995، وبعد ذلك من 21 يناير 1996 حتى 23 يناير 2001.

عن هذه الفترة تقول أم جميل «كان الشيخ يقضي طوال النهار في مراجعة الكتب وكتابة مذكراته وقصة حياته، ويقضي الليل في الصلاة والدعاء، كنت أخرج أحياناً للمستشفى، أو لقضاء بعض الحوائج فأتركه قليلاً وأعود لأبقى معه، وكنت في موسم محرم أتحين الفرصة للذهاب إلى المأتم ولو ساعة. أما هو، فكان يبقى في المنزل ويحاول جاهداً أن يستمع لـ (القراءة) التي كانت تصدر من سماعات المآتم القريبة أو البعيدة، لكن الصوت لم يكن واضحاً تماماً. كانت الحياة في تلك الفترة جحيماً، كنا نشعر بضيق شديد، لم نكن نستطيع أن نخرج أو ندخل إلا بعد إبراز بطاقاتنا السكانية، ولا يمكن لأحد أن يدخل علينا، وحتى لو حاول أحدهم التسلل للدخول، كان يسحب إلى مركز الشرطة مباشرة. أما في فترة الحصار الثاني، فكان الشيخ يتجه أحياناً إلى مسجد أبوصبح، أو الدراز (ليستمع)، لكنهم كانوا يرفضون إدخاله، فكنا نصحبه إلى ساحل البديع، حيث تصل أصوات القراءة واضحة هناك لأن السماعات كلها قريبة، وكنا نبقى معه بالساعات».

غير أن أياً من هذا الضيق والمعاناة لم يكن دافعاً لأم جميل لأن تضعف أو تتراخى، سألتها: ألم تشعري بالخوف؟ ألم تفكري في التراجع؟ ألم تتعبي من كل هذا؟ أجابت شامخة «لم أكن خائفة، كنت متعبة ومتضايقة، لكنني لم أفكر أبداً في التراجع، أو تثبيط عزيمة الشيخ في أي مرحلة، كنت دائماً أقول: بما أننا قطعنا كل هذا الشوط الطويل، وتحملنا المعاناة والمضايقة كلها، فيجب أن نواصل المشوار الذي بدأناه، وأن نصل إلى نهايته. كنت أشعر بالألم عندما كانوا يضايقوننا في أرزاقنا، فحتى أبناؤنا المتفوقون، سحبت منهم بعثاتهم الدراسية، لم أكن أهتم، وكنت أعزي ابني علي بأننا سندرسه على حسابنا الخاص بعد أن فقد بعثته الدراسية، كانوا يمنعون أي شخص من أن يتواصل معنا في فترة الحصار».

بكيت في دورة المياه بالساعات بعد اعتقال أبنائي

وكأن ما حصل لأم جميل لم يكن كافياً لها، لتواجه فترة من أصعب فترات حياتها، الفترة التي سجن فيها الشيخ عبدالأمير، وكان ابنها النائب محمدجميل اعتقل في 1988 وبقي في السجن حتى 1998، وزوج ابنتها النائب عبدالجليل خليل ما بين 1988 و1995، واعتقال ابنتها عفاف في 1995 (زوجة عبدالجليل)، واعتقال منى (زوجة محمدجميل) – من يناير الى مارس/ آذار 1996. أول ضربة تلقتها أم جميل كانت باعتقال زوج عفاف، النائب عبدالجليل خليل، الذي كانت تحبه كثيراً كابنها وذلك في أغسطس/ آب 1988… لم تكن تطبخ الطعام الذي يحبه في فترة غيابه، ثم اعتقل ابنها الأكبر النائب محمدجميل الجمري في سبتمبر/ أيلول 1988، فزادت العلة. بأسى تقول «لم أكن أنام الليل أو آكل أو أشرب، كنت أقفل على نفسي باب دورة المياه الصغيرة، وأجلس أبكي، كان جلوسي هناك بالساعات يذكرني بأحبابي المسجونين في زنزانة بحجم دورة المياه هذه، ليس بها إلا مروحة صغيرة للتهوية، كنت أشعر بالتوحد معهم عندما أجلس هناك، وعندما كان الشيخ يسألني ماذا كنت أفعل، لم أخبره بشيء». الشيخ عبدالأمير أيضاً عانى الأمرين بعد اعتقال أبنائه، تقول أم جميل: «كان الشيخ يعاني آلاماً غريبة في رجليه، وبعد الكشف عليه من قبل الأطباء قالوا إنه لا خلل عضوياً فيهما، وإنما هي حال نفسية من الهم والحزن. لم يكن ينام في الليل، كان يبقى في المجلس لوحده ويغلق مكيف الهواء في عز الصيف، وعندما أسأله: لماذا لا يفتح المكيف كان يجيبني: كيف أبقى في هواء المكيف البارد وأبنائي في السجن يعانون الحر؟».

قامت بـ «المستحيل» لأجل ابنها لؤي

في يناير 1995 جاءت المخابرات لاعتقال لؤي للتحقيق، رفضت أم جميل ذهابه بإصرار، وشعرت بأنها لن تستطيع أن تحتمل ألم اعتقال ابن آخر… فقررت أن تبعده، مهما كان الثمن. تقول أم جميل مستذكرة «كنت أعرف أنه إن ذهب للتحقيق فلن يعود، فقررت أن أفعل المستحيل لإنقاذه، قمت بعمل المستحيل، ذهبت لأشخاص أعرفهم طالبة أن يوفروا لي تذكرة سفر إلى لندن. في اليوم نفسه استطاعوا تدبيرها بصعوبة، وكان ذلك اليوم رهيباً، كانت المدرعات تغطي الشارع من منطقة القدم حتى منطقة بني جمرة حيث نسكن. والتفتيش كان لكل بيت، وكان بيتنا محاصراً، أخذت لؤي في سيارة أنا وخطيبته نسيم وابنتي عفاف، وحملنا معنا دعاء كنا نقرأه طوال الطريق، كان المطار مراقباً، لا أعرف حتى الآن كيف تمكن لؤي من المرور من كل هذا التدقيق في الجوازات. ارتحت قليلاً حتى قالوا لي إن الطائرة غادرت المطار، شعرت بأنني أنقذته، لكن هدوئي ذاك كان مؤقتاً، بددته المخاوف التي ذكرها لي ابني من احتمال اعتقاله في سلطنة عمان حيث تهبط الطائرة في ترانزيت هناك قبل أن تواصل رحلتها إلى لندن. وبقيت في عذاب وقلق طوال الليل، لم أستطع الأكل أو النوم، سهرت بجانب الهاتف منتظرة ابني منصور ليتصل بي من لندن ويخبرني بوصول أخيه إليه.لم أستقر حتى تلقيت هذه المكالمة التي هدأت من روعي في العاشرة صباحاً، مازلت أذكر هذا اليوم الرهيب، بعدها ارتحت على مصير لؤي».

لم تنتهِ «مغامرة» أم جميل عند هذا الحد، إذ كان هدفها التالي هو إرسال خطيبة ابنها لؤي (نسيم) لتلحقه في لندن، قامت أم جميل بمرافقتها في السفر هذه المرة الى دولة قطر، التي كانت مرحلة الترانزيت بالنسبة إليهما. بحماس تتذكر أم جميل هذه المغامرة وتقول «كان أصعب ما في الأمر الاستجواب الذي تعرضت له في المطار، أنا وابني الصغير مهدي. أخبرتهم بأنني ذاهبة لزيارة ابنتي منصورة التي كانت قد هربت مع زوجها السيدهادي الموسوي (الذي أيضا كان مطلوباً للمخابرات، وتمكن من السفر قبيل أن يعتقلوه وذهب الى قطر)، وكانت خطيبة ابني لؤي بعيدة عني حتى لا أعرضها لأي استجواب مشابه.

وصلنا الى قطر، وهناك حجزنا لها إلى لندن وسافرت بسلام، وعدت مع ابني الصغير آنذاك (مهدي وكان عمره 6 سنوات) إلى البحرين. كان الاستجواب في المطار هذه المرة أكثر صعوبة، فتشوني طويلاً، وسألوني: هل تحدثت مع ابني منصور في بريطانيا؟ وماذا قلت له؟ وحققوا مع ابني مهدي أيضاً، لكنه استطاع – وهو ابن الست سنوات – أن يهرب من كل الأسئلة، ولم يجبهم بشيء على رغم أنهم هددوه بالضرب».

اعتقال عفاف ومنى كسرني

لم يكن أياً من المواقف الصعبة التي مرت أشد على أم جميل من نبأ اعتقال ابنتها عفاف وبعد ذلك زوجة ابنها منى، تقول أم جميل: «أصعب لحظة مرت علي في كل ما عانيته كانت اللحظة التي اعتقلوا فيها ابنتي عفاف ومن ثم منى زوجة ابني محمدجميل في منتصف الليل… أولاً طلبوا ابنتي عفاف للتحقيق، وعندما عاد أخوها (صادق) من دونها قائلاً إنه (تم اعتقالها)، شعرت بأن ظهري انكسر، وأنني أنهار. بعد ذلك بفترة جاءوا واعتقلوا منى… ففي النهاية هن بنات، لا قدرة لهن على احتمال الاعتقال».

اعتُقِلوا… وبقيت أربي 8 أطفال من أبنائهم

اعتقل وهجر اكثرية افراد العائلة إذاً، وبقيت أم جميل وحيدة تقريبا، في منزل ليس فيه إلا… الأطفال، اطفال المعتقلين من ابنائها… عددهم ثمانية آنذاك. بمرارة تقول أم جميل: «كانت فترة سجن الشيخ صعبة علي للغاية، لم يكن ضيقي بسبب السجن فحسب، وإنما تضاعف ضيقي لأنني كنت وحدي في المنزل مع 8 أطفال، ابنتي نبراس، وابني مهدي وعلي، وابني ابنتي عفاف (ولد وبنت)، وأولاد ابنائي الآخرين (3 أطفال)، كان الوضع لا يحتمل، إذ كنت وحيدة مع كل هؤلاء الأطفال، وكانوا أشقياء جداً لأن آباءهم وأمهاتهم في السجن. لم أكن أنام في الليل، كنت أبكي ليس لأن آباءهم في السجن، بل من ضغط الأطفال، حتى فرج الله تعالى علينا وخرجت ابنتي عفاف من السجن، وتبعتها بعد ذلك زوجة ابني منى، فحملن عني جزءاً من المسئولية التي لا تحتمل».

وتستأنف أم جميل باسمة «غير أن الناس لم يكونوا يقصرون معي في تلك الفترة، كان البعض يأتي لي ويقفون خارج المنزل ويتصلون بي لأخرج، ثم يأخذونني لأي مكان أريد، لا أنسى عددا منهم ابدا، جئن كثيراً لزيارتي وخاطرن بأنفسهن، وكن يرفهن عني ولم يرغبن في بقائي وحدي مع الأطفال كل هذا الوقت، وعندما كان الصحافيون يزوروننا سائلين عن الأحوال، كنت أقول لهم تفضلوا وانظروا إلى وضعنا، كل هؤلاء الأطفال من دون أهل».

أحتفظ برسائل هربها لي الشيخ من السجن

«كان ذهابنا لزيارة السجن صعباً للغاية، لم أكن أعرف هل أذهب لزوجي، أم للآباء المسجونين، أم للبنات المسجونات». بهذه الكلمات وصفت أم جميل الرحلات المكوكية التي كانت تقوم بها من سجن إلى آخر حاملة الأغراض والأطعمة لأهلها المعتقلين في السجن. عن سجن الشيخ عبدالأمير تقول «عندما دخل الشيخ السجن لأول مرة لم نكن ندري عنه شيئاً، لم نكن نعرف أين سجن، ثم رتبوا لنا مقابلة بعد 9 شهور و12 يوما بالتمام منذ تم اعتقاله، عندما شاهدته في المقابلة شعرت بالحزن، كان نحيفاً، لحيته طويلة، وعلى رأسه (غترة) مهملة ويبدو متعباً للغاية. بادرته بالسؤال: أين سجنوك؟ فنهرني الشرطي الواقف على رأسنا: لا شأن لك بذلك.

فعدت للصمت. انتهت المقابلة بعد نصف ساعة، منحونا مقابلة شبيهة بها بعد نحو شهرين، واستمرت علاقتنا به عبر مقابلات أخرى كل فترة، لم نعرف خلال أي منها أين هو، ولا ماذا يفعلون به، كانت صحته تتدهور كثيراً، عرفت ذلك من رسالة أرسلها لي بالتهريب في طعام أرسلته زوجة أحد المعتقلين معه، لفها في ملعقة الطعام، لازلت أحتفظ بهذه الرسالة التي تحدث فيها عن معاناة كثيرة يعانيها داخل السجن، وسلم فيها على كل أحبائه، وبدأها بقوله: الحمد لله الذي فرغني لعبادة ربي».

«وبشر الصابرين… »

أربع سنوات ونصف السنة قضاها الشيخ الجمري في السجن، من يناير 1996 حتى يوليو 1999، تعتبرها أم جميل أصعب السنوات التي مرت عليه في كل حياته. بحزن بادٍ على ملامحها تقول «كنت أظن حينما كنت أزوره أنه سيموت في السجن، تدهورت صحته كثيراً في تلك الفترة وكان يتعرض لتعذيب نفسي أكثر منه جسدياً، كانوا عندما يضعون معه شخصاً في الزنزانة يصبح جاسوساًَ عليه ويؤذيه، كانوا يهددون المساجين الذين معه بالضرب إن لم يؤذوه أو يسجلوه ويرسلوا لهم الأشرطة. على رغم كل ذلك كان دائماً يقول (وبشر الصابرين)، وقوله ذلك يصبرني على رغم الألم، كنت بعد كل مقابلة لي معه أتألم ولا أستطيع النوم أو الأكل ليومين، لكنني أتأقلم في النهاية».

وتضيف أم جميل «قمت بالكثير في فترة سجنه، كنت أؤمن بضرورة أن ننشر مظلوميته، تحدثت مع الصحافيين، تحدثت أيضاً مع النساء في المآتم بعد كل قراءة، كنت أتحدث بشكل عام، ولا أخصص حديثي لأحد. كنت أعرف الأوضاع التي يعاني منها الناس، وأتحدث عنها، وأبثها للصحافيين الذين أستطيع الاتصال بهم في تلك الفترة. ساعدت أيضاً عوائل المساجين، كنا نزورهم باستمرار ونحمل لهم المساعدات والأطعمة والنقود. كنا نؤمن بأنهم جميعاً أهلنا، ومن واجبنا أن نساعدهم. سنوات عجاف قضاها الشيخ في السجن، وعندما خرج منه أخيراً، خرج لأم جميل مريضاً، وسرعان ما اصيب بجلطة في قلبه في 2000، وهو تحت الحصار المنزلي. وكانت تلك الجلطة بداية لجلطات اخرى، اذ اكتشفنا لاحقا أنه اصيب ايضا بجلطة صغيرة في الدماغ اثرت على بصره وعلى خط يده وعلى انتباهه الذي كان حاذقا قبل تلك الفترة ولكنه بدأ يتأثر بعد ذلك، ومن ثم اصيب بالجلطة الكبيرة في 2002 والتي اقعدته في فراش المرض حتى رحيله الى الرفيق الاعلى في صباح 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006.

«انتهى كل شيء»

لم تأت النهاية سريعة بالنسبة إلى أم جميل، بعد كل المعاناة التي عاشتها مع الشيخ لحظة بلحظة، كان عليها أن تعايش معاناة أصعب وأكثر حدة وهي تصاحب رفيق دربها «الطويل» متألماً من المرض. نحو خمس سنوات (من 2002 منتصف حتى نهاية 2006) لازمت فيها أم جميل الشيخ لحظة بلحظة، ترفض أن تعترف حتى لنفسها أحياناً بأنها النهاية، حتى صباح ذلك اليوم البارد في ألمانيا في مايو/ أيار 2002، تقول «كان ذلك اليوم هو يوم عمليته، اليوم الأطول في حياتي، أدخلوه غرفة العمليات صباحاً ولم يخرج منها حتى الخامسة عصراً، كنت لوحدي هناك إذ إن ابني الأكبر اضطر للعودة للبحرين، خرج من العملية متعباً والأجهزة مركبة على جسمه، جلست إلى جانبه حتى استيقظ في الليل وهو يصرخ من الألم، كان يقول لي (هذه ليست عملية، هذا موت)، لم أحتمل أن أراه في هذه الحال، ناديت الأطباء، لأكتشف أنه أصيب بنزيف آخر، وقاموا بعملية أخرى له».

وتستطرد أم جميل «بعد أن استيقظ من العملية لاحظت أنه ينطق بكلمات مبهمة غير مركبة، شككت في الأمر، بحثت عن طبيب أفهم منه الموضوع، قالوا لي في البداية إن الأمر طبيعي كرد فعل للعملية، ثم صارحوني بأنه أصيب بجلطة كبيرة في موقع العملية». تتوقف أم جميل عن الكلام هنا، وكأنها تستشعر غصة في حلقها وهي تقول «في هذه اللحظة شعرت بأن الأمل انقطع والرجاء خاب، شعرت بأن كل شيء انتهى… كانت مسألة وقت».

لم أعرف في أي وقت توفي

مر الشيخ الجمري بعد عمليته في ألمانيا بمراحل طويلة ومريرة من المرض، انتهت به في منزله في بني جمرة (نقل الى السعودية في يناير 2003 وبقي عدة شهور ومن ثم عاد الى البحرين في سيارة الاسعاف)، تحت إشراف ممرض متخصص.

خمس سنوات قضاها الشيخ من عمره مريضا، وقضتها أم جميل إلى جواره تتنقل من مكان إلى آخر… حتى 18 ديسمبر 2006، يوم وفاته.

على رغم صمودها البادي، لم تستطع أم جميل أن تمنع التماع الدموع في عينيها وهي تتحدث عن يوم وفاته «كنت لوحدي في المنزل عندما اكتشفت وفاته، ولم يكن معه إلا ممرضه الخاص، لم أعرف بالضبط متى توفي، دخلت عليه في الصباح واكتشفت وفاته، ثم لم أعرف ماذا حصل لي، ارتفع ضغطي وسقطت إلى جانبه ولم أستطع النهوض، أخذوني للمستشفى وأعطوني إبرة شعرت بعدها بأنني مشلولة، وبقيت غائبة عن الوعي راقدة في منزل أختي حتى الليل، كانوا قد غسلوه ودفنوه وأنا راقدة، لم أصحُ إلا في الساعة الواحدة بعد الليل، ولم أكن أعرف ما حصل، أفقت من نومي فتوضأت وصليت، وعدت لمنزلي، وهناك فقط، شعرت بأن كل شيء انتهى».

حياتها بعده

هل تتذكرينه؟ ربما يبدو السؤال ساذجاً بعد كل ما قالته أم جميل، لأن كل تلك التفاصيل لا يمكن أن تقال عن شخص رحل عنها، وإنما عن شخص حي في عقلها وقلبها وكل تفاصيل حياتها. التمعت عيناها مرة أخرى وهي تقول «أتذكره دائماً، وأتذكر كل تفاصيل حياتي معه، لم يكن لي زوجاً، كان أباًَ حنوناً، كان دائماً يقول لي إنه يتمنى أن يموت قبلي، ويتمنى أن يمرض بدلاً عني، كنت أغضب منه، وأدعو أن أموت أنا قبله، لكن يبدو أن دعاءه هو الذي استجيب… أفتقده في كل شيء، في كل لحظة وثانية أقوم فيها أو أقعد، أنام أو أصحو، دائماً يرافقني وجهه، أشعر بحربة تطعنني ألف مرة كلما رأيت مكاناً معلماً في كتاب كان يقرأه، وترك علامة فيه لكي يرجع إليه… لكنني أحمد الله تعالى، فقد رحل على بصيرة من أمره، خفيفاً، لم يحتفظ بأي مال أو أملاك، وزع كل ما لديه على أبنائه، ورحل».

موكب مهيب ذلك الذي شهدته البحرين في وداع الشيخ الراحل، موكب توافد إليه البحرينيون من كل مكان، تقول أم جميل: «اعتبره الناس جميعاً أباً لهم، ولم يقصروا معه أبداً، منذ سجنه، حتى مرضه، حتى وفاته، لم يقصر الناس معه أبداً، وحتى بعد مماته، صاروا يزورونه أكثر مما نزوره نحن».

كيف تقضين الآن أيامك يا أم جميل؟ تجيب باسمة «لايزال دوري في المنزل مثلما كان في أيام حياته، مثلما عودني تماماً، بيتنا مفتوح للجميع، في استقبال الناس، أنا باقية في المنزل أديره، وعلى رغم أنني أسكن في المنزل لوحدي مع ابني الصغير مهدي، لايزال منزلنا (سفينة نوح) مثلما كان يسميه الشيخ، الزوار لا ينقطعون عنه، والضيوف دائماً متوقعون، والوجبات دائماًَ حاضرة. منذ أيام حياة الشيخ وأنا دوماً حاضرة ومستعدة، كان يحضر كل يوم للمنزل ويناديني: أم جميل يا الوردة ضعي لنا الغداء. فأسأله وأنا أعرف الجواب: هل معك ضيوف؟ فيقول: نعم، كان غالباً يجيب بنعم، وكنت دوماً حاضرة، ومستعدة، كانت هذه هي حياتي، وستسمر هكذا بعده».

طيب… ولكن كالبنيان المرصوص

بنظرة ملؤها الدفء والحنان، عادت أم جميل بذاكرتها للوراء، تستحضر رفيقها الحاضر الغائب، رفيقها الذي رحل، ولم يرحل. لاتزال تستحضر طيبته، وقلبه الأبيض، استرخى صوتها كثيراً وهي تتحدث عن أفضل صفاته، ولم تخلُ نبرتها من دلال وهي تتذكر الكلمات التي كان يراضيها بها وتقول «كان الشيخ طيباً جداً، لم أجد شخصاً أطيب منه، كنت عندما أزعل منه، لا يهدأ حتى يراضيني، وكان دائماً يناديني: وردية… زهور، وعندما أتعصب عليه لأي شأن لم يكن يرد علي، ويكتفي بأن يقول: الله يهديك». كنت أكره خروجه المتكرر من المنزل، لم يكن يبقى معي ومع أبنائه، وكان يسلمني مسئولية البيت بالكامل، كان يسلمني كل ما يملك من نقود، ويتركني أتصرف في كل شيء، وحتى مصروفه الشخصي يأخذه مني. وعندما كنت أنتقد حياته هذه كان يرد علي «هكذا هي حياتي»، وكان دائماً ما يعتذر – مازحاً – لأصدقائه إن تأخر معهم ليلاً بضرورة عودته للمنزل، وإلا (طردته) أم جميل.

معادلة متناقضة فكت أم جميل وحدها رموزها بعد 49 عاماً، هكذا كان الشيخ الجمري «كالبنيان المرصوص»، كما تقول، حاداً وصارماً لا يتنازل عن رأيه، لكنه في الوقت نفسه طيب جداً، حنون جداً، وهب نفسه للناس، وكان آخر همه… «نفسه».

 

 

مقابلة «القبس» الكويتية مع الشيخ الجمري في 27 يناير 2002

في مطلع العام 2002 أجرت صحيفة «القبس» الكويتية مقابلة مع فقيد الأمة الكبير سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري (قده) وفيما يأتي نص المقابلة:

في قراءة لخريطة التحولات الجديدة في البحرين، كانت هناك سلسلة لقاءات أجرتها صحيفة «القبس» الكويتية حديثاً مع عدد من الرموز الدينية والسياسية والاجتماعية من مختلف المذاهب والتوجهات، وأجرت معها حوارات مختلفة بشأن آخر التطورات السياسية على الصعيد البحريني الداخلي، وأبرز الملفات الساخنة التي لاتزال مفتوحة أو تلك المرتقبة في المستقبل.

سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري وهو من الشخصيات الدينية العلمائية البارزة وأحد الوجوه الشيعية المهمة التي تتصدر قيادة المعارضة البحرينية وتيارها الشيعي تحديداً، إذ هو رمز رئيسي من رموزها، وقد كان لخروجه من السجن خطوة أساسية في الانفراج السياسي الذي شهدته البلاد، وإلى جانب ذلك كان لخروجه بداية جديدة لمسيرة شيعة البحرين ومشاركتهم الحقيقية في ساحة العمل الإسلامي والوطني خدمة لرسالة الدين والأمة والوطن، ولاسيما أن الشيخ الجمري يلعب دوراً بارزاً في تجاوز الأجواء الطائفية البغيضة ويعمل على توحيد البناء الإسلامي وخصوصاً السني والشيعي في الوقت الذي يدعو فيه للسير في خط الاعتدال السياسي.

صحيفة «القبس» وعلى ضوء استطلاعها وحوارها الصحافي مع رموز المعادلة السياسية البحرينية الجديدة، الذي تزامن مع مناسبة الذكرى السنوية الأولى لصدور الميثاق الوطني البحريني، كان لها لقاء مع العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري، وفيما يأتي جوانب من الحوار الذي دار مع سماحته:

ما طبيعة الأجواء التي تعيشونها في البحرين… كانت متوترة والآن هادئة؟

– هدوء الوضع جاء بعد حدوث تغيير أساسي في النهج السياسي للنظام في البحرين، فقد كان النظام ينظر إلى أبناء الشعب نظرة قائمة على سوء الظن، معتمدين في ذلك على مستشارين من خارج البحرين.

ولكن عندما فتح سمو الأمير باب الحوار مع شعبه وجد أن هذا الشعب الطيب لم يكن في يوم من الأيام إرهابياً أو تخريبياً كما كان يدعي جهاز الأمن، ولكنه شعب معطاء ووفي لا ينسى المعاملة الحسنة فيما لو توافرت تلك المعاملة. وهكذا انتقلنا من التوتر إلى الهدوء ومن القمع إلى الحوار، والحمد لله الذي وفر لهذا الشعب أميراً يفهم متطلبات العصر، ويستجيب لمتطلباته.

وأعتقد أن أثر الانفتاح في البحرين سيكون إيجابياً على المستوى الخليجي، فأملنا أن نقدم النموذج الحضاري الذي يستجيب لمتطلبات العصر ويقوم على القيم الإسلامية والوطنية دون الإخلال بثوابت الدستور الذي يتفق عليه أبناء الشعب.

ما رأيكم فيما حدث في الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر/ أيلول؟

– لقد أدنت جميع الأعمال الإرهابية، سواء كانت تلك الأعمال باسم الإسلام، أم تمت تحت أي مسمى آخر، فلا توجد عقيدة دينية صحيحة تؤمن بقتل الأبرياء، والاعتداء على الآخرين بالطريقة التي تمت في 11 سبتمبر في الولايات المتحدة.

كيف تنظر إلى حقوق الإنسان؟

– حقوق الإنسان أساسها الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وتوفير الأجواء اللازمة لضمان حرية الاختيار والإرادة. وعلى هذا الأساس فإننا نرى أن القرآن الكريم قد أكد كرامة الإنسان، قال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (الإسراء: 70)، كما أن القرآن الكريم يتحدث بصورة أساسية عن حرية حقوق الإنسان في اختيار طريقه في الحياة وتقرير مصيره. إننا ندعو إلى منظومة حقوق الإنسان التي أقرها المجتمع الدولي، ووافق عليها مفكرو الإسلام المتنورون. وأعتقد أن الأمور أو المناطق المتفق عليها تمثل الغالبية العظمى من الحقوق.

لدينا اختلافات بشأن القيم الأخلاقية، وسنبقى مختلفين. فنحن – كمسلمين – لا نؤمن بالحرية الجنسية العبثية مثلاً، ولكننا مع الحرية السياسية والمدنية، ومع الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية كافة.

ما رأيك في مجلس الشورى لمجلس التعاون الخليجي؟

– هذا المجلس أقل من الطموح، ونأمل أن يتم تطويره ليصبح منتخباً وممثلاً لأبناء الخليج على الطريقة نفسها التي يتبعها البرلمان الأوروبي بالنسبة إلى دوره في الاتحاد الأوروبي.

ذكرت الأنباء عن تصدركم لصحيفة يومية ثالثة في البحرين، وأن ابنكم منصور الجمري هو الذي سيرأس تحرير تلك الصحيفة، فما هي حقيقة الأمر؟

– بالفعل لقد تحدثت مع سمو الأمير عن الحصول على رخصة سياسية لإصدار صحيفة يومية، وقد رحب سموه بذلك، واشترط أن يكون رأس المال بحرينياً بالكامل، وقد بدأ مشروع التأسيس بالاتصال بعدد من وجهاء البحرين ورجال الأعمال الكبار المعروفين بدورهم الوطني والإنساني، ونحمد الله فإن استقبال هؤلاء الوجهاء للمشروع وتبنيهم له قد دفع به (أي مشروع الإصدار) إلى الأمام.

تحدثتم كثيراً عن اتجاه وسطي ومعتدل، فهل لكم توضيح ما تقصدونه؟

– الاتجاه الوسطي الذي نقصده هو ذلك التوجه العدل، الذي لا إفراط ولا تفريط، وهو ذلك التوجه الذي يؤمن بالعمل السياسي القائم على احترام حكم القانون الصادر عن هيئة تشريعية منتخبة، وعلى احترام حقوق المواطنين، والالتزام بالقيم الإسلامية الداعية لبث روح التسامح والتعايش السلمي في المجتمع. وأعتقد جازماً أن هذا التوجه المعتدل تؤمن به الغالبية العظمى من الشعب المسلم، وأنه بسبب هذا الاعتدال استطاع الشعب الوصول إلى تفاهم إيجابي مع القيادة السياسية، وأن يفتح الطريق أمام المرحلة الانفتاحية التي نعيشها حالياً.

هل ستدخلون البرلمان أم ستقبلون بمنصب رسمي؟

– لن أدخل البرلمان شخصياً، ولكني سأساند الاتجاه الإسلامي الذي سيدخل البرلمان. كما أنني لن أقبل بمنصب رسمي، فدوري الاجتماعي الحالي هو أفضل دور أستطيع من خلاله خدمة أمتي ووطني. والله ولي التوفيق.

 

 

مقابلة وكالة الأنباء الفرنسية مع الشيخ الجمري في 14 أبريل 2002

ما رؤية سماحتكم للانتخابات البلدية التي ستجري في التاسع من مايو/ أيار 2002؟ هل تعتبرونها مقياساً أولياً للحكم على المشروع الإصلاحي؟

– لقد شاركت مع عدد من علماء الدين في إصدار بيان حول الانتخابات البلدية، وأشرت الى ضرورة الدخول في هذه التجربة رغم تحفّظنا على عدد من مواد القانون الخاص بالبلديات، وتحفظنا على قانون توزيع المناطق الانتخابية.

على رغم تحفظاتنا التي ذكرتها آنفاً نعتقد بضرورة دفع المسيرة الإصلاحية بأيِّ وسيلة كانت، لكي نحقق المصلحة ونواصل السعي في ذلك قدر الإمكان، ولكي لا تُتَّهم قوى المعارضة بأنها تعرقل المسيرة الإصلاحية بشكلها الحالي.

العمل البلدي سيعطينا فكرة حول طبيعة التقسيم الذي فرضه قانون الانتخابات، وكيف ستتدخل الأجهزة الرسمية في تنظيمه أو التحكم في الانتخابات، ومدى اتفاق تلك الترتيبات مع ضوابط النزاهة المعترف بها دولياً.

هل تعتقدون سماحتكم أن التطورات التي رافقت التظاهرات الأخيرة ستؤثر على إقبال الناخبين على الاقتراع خصوصاً لجهة استشهاد المواطن محمد جمعة الشاخوري (رحمه الله) وما تركه ذلك من تأثير لدى المواطنين من مشاعر إحباط أو استياء من تصرفات قوات الأمن؟

– التطورات التي رافقت التظاهرات التضامنية مع فلسطين، واستشهاد الشاب محمد جمعة ألقت بثقلها على الساحة المحلية، وكادت الأمور تفلت لولا رحمة الله تعالى، وتدخُّل – بتوفيقه سبحانه – الرموز الدينية لإبعاد المسيرة عن بعض المظاهر التي قد لا تعود بالنفع على أيّ أحد. أعتقد أن أبناء الشعب شعروا بالإهانة، كما شعروا بأن أجهزة الأمن التي ارتكبت الأخطاء في الماضي على أتم الاستعداد لارتكاب الأخطاء ذاتها، ولذا فإنَّ شعوراً بالإحباط قد بدأ ينمو في أوساط الشعب.

ونأمل أن تتم معاجة الأمر من خلال التحقيقات النزيهة، ومعاقبة قاتل الشهيد، وتعويض عائلته، ووضع الضوابط التي تمنع حدوث مثل ما حدث مرة أخرى.

كيف تنظرون سماحتكم إلى اللقاء الذي تم يوم الأحد المنصرم بين ممثلين عن الحكومة وممثلي الجمعيات السياسية في البلاد خصوصاً لجهة تأكيد الطرفين على النأي بالمسيرة الإصلاحية عن أي تعثر بسبب تداعيات استشهاد المواطن محمد جمعة والظروف التي رافقت المواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين يومي الجمعة 5 أبريل والأربعاء 9 أبريل؟

– اللقاء بين ممثلي الحكومة وممثلي القوى السياسية نرجو إن شاء الله أن يصب دائماً في الصالح العام. وندعو أن تكون هذه اللقاءات جزءاً من أسلوب اتخاذ القرارات، ومعالجة الأمور بصورة مستمرة، وليست فقط عندما تحدث أزمة.

علمنا انكم استقبلتم أحد مستشاري الملك مؤخراً. فماذا أبلغكم المستشار وما هي أبرز نقاط الحوار الذي دار بينكم وبينه؟

– لقاءاتي بالمسئولين تتمحور دائماً حول الشأن العام، واللقاء الذي أشرتم إليه يندرج ضمن هذا الإطار، وقد كان الدافع الرئيس له هو ما شهدته البحرين من تظاهرات مناصرة للقضية الفلسطينية. وفي ذات السياق أكدتُ على ضرورة الإلتزام بالوعود التي أطلقت قبيل التصويت على الميثاق في فبراير/ شباط 2001.

كيف ترون موضوع المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة في أكتوبر/ تشرين الأول 2002؟ وهل تفضلون المشاركة فيها أم أن لسماحتكم وجهة نظر أخرى؟

– موضوع المشاركة في الانتخابات النيابية سيكون محوراً للحوار الوطني وما يحقق مصلحة الأمة بعد الانتخابات البلدية، وسنكون مشاركين مع باقي القوى السياسية في الحوار، وفي تشخيص ما يخدم الشعب ويحقق المصلحة العامة، والله ولي التوفيق، ومنه نسأل التسديد.

 

 

محاضرة ألقاها الشيخ عبدالأمير الجمري في جامع جدحفص ليلة الجمعة 23 شوال 1394 هـ (1974)

الضمان الاجتماعي في الإسلام

إن الإسلام ليس طقوساً وعبادات وأدعية فحسب، وليس عقيدة وصلة بين الخالق والمخلوق فحسب، ولكنه نظام اجتماعي، ومنهاج حياة، وتشريع ضخم يمتد لجميع جوانب الحياة فيلونها بطابعه الخاص، وصبغته الخاصة «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» (البقرة: 138).

وإن من المؤسف جداً أن نسبة مئوية جد كبيرة من المسلمين يفهمون الإسلام اليوم فهماً ناقصاً. لا كما فهمه آباؤهم وأجدادهم، بل كما عرفه لهم المستعمرون، فهو في فهمهم دين عبادة وتقشف وطهارة ومساجد وزهد، مقصور على هذا، أما المشكلات الاقتصادية، أما المشكلات السياسية، أما المشكلات الاجتماعية، أما شئون الحكم والقضاء، أما الشئون العسكرية والحربية، فليس للإسلام فيها مجال، ولا علاقة لها بوظيفة الإسلام، لأنها خارجة عن إطار المسجد، ومن هنا أصبح هؤلاء – من جراء فهمهم للإسلام بهذا الوزن – مهيئين فكرياً لتقبل أية دعوة، وأية دعاية مزيفة، ونتيجة لذلك صاروا يهتفون بديمقراطية الغرب، وشيوعية الشرق.

ولو شئناً أن نقدم الأدلة والأرقام على زيف دعوى قصر الإسلام على الجانب الروحي فقط لاحتجنا لوقت أطول، ولكن لابد من ذكر شيء لتزييف هذه الدعوى. إن إعطاء الإسلام صفة الانزواء والانعزال عن واقع الحياة ادعاء لا دليل عليه، بل الأدلة كلها تقوم على نقضه.

1- إن الإسلام لو كانت مهمته – كما فسره الجاهلون تبعاً للمستعمرين – صوفية رهبانية تقشفية لا تتعدى إطار المسجد لما كان ثمة مقتضٍ لأن يرسل الله محمداً (ص) ليبلغ، وليقاسى وأصحابه في سبيل التبليغ صنوف العذاب، ولكان يكفى – أو كانت تلك وظيفة الإسلام فحسب – أن تدين البشرية بدين الكنيسة لأنه يضمن لها الرهبنة والتقشف والحياة السلبية، ولكان حينئذ إرسال محمد عبثاً. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وهل الصحيح قول هؤلاء الذين يحاولون إبعاد الإسلام عن مجال العمل فيقصرونه على عقيدة ومسجد أم قول الله تعالي: «ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين» (النحل: 89).

2- إن الرسول الأعظم (ص) كما هو ثابت تاريخياً قد أقام حين وصوله إلى يثرب دولة تولت مهمة حفظ الإسلام ونشره، وقاد الجيوش، وطبق العدل والمساواة، ورعى شئون الأمة، وقضى في الخصومات، وأقام الحدود، وبين حتى حكم أرش الخدش، ونظم كل شيء تحتاج إليه الدولة بمفهومها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فمن أين جاء (ص) بتلك الأنظمة؟ هل استفادها من الدول المعاصرة كالفرس والروم؟ ذلك أمر منقوص من الأساس لأن الله قد نفى عن رسوله التقول، ولو انتقى حكماً أو نظاماً من دولة ما، لكان ذلك تقولاًً على الله، لأنه إنما يبلغ عن الله تعالى، قال تعالي: «ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين» (الحاقة: 44 – 47).

3- إن فقهاء الشريعة والمتخصصين بدراسة التشريع الإسلامي على اختلاف مذاهبهم قد اتفقوا على القاعدة القائلة: «إن لله في كل واقعة حكماً».

والواقعة لغة تعنى المشكلة، وهذه المشكلة قد تكون فردية، وقد تكون اجتماعية، وقد تكون ثقافية، أو اقتصادية أو سياسية… وبعد هذه المقدمة التمهيدية فلندخل إلى موضوع محاضرتنا «الضمان الاجتماعي في الإسلام».

مفهوم الضمان الاجتماعي

التعريف الذي قرر الإسلام مضمونه وحقيقته هو: «إلزام الدولة بإعالة أو سد عوز من لا يقوى على العمل، ومن لم يعمل لعذر مشروع وليس له معيل». يتراءى لكثير من الناس والشباب المثقف أن فكرة الضمان الاجتماعي من بنات هذا القرن ومن صنع الغرب نظراً إلى أن أول قانون للضمان الاجتماعي قد صدر في الولايات المتحدة الأميركية العام 1935 . وهذا خطأ محض، فإن هذه الفكرة وهذا النظام قد قرره الإسلام قبل 14 قرناً وطبقه على واقع الحياة.

وبالمقارنة بين التحديد الذي ذكرناه للضمان الاجتماعي في الإسلام والذي قرر الإسلام مضمونه لا نصه، بالمقارنة بينه وبين تعريفات الضمان الاجتماعي في التشريعات والدساتير الحديثة نرى أن ذلك التحديد أكمل واشمل، لأن تلك التعريفات يكثر فيها الخلط بين مفهوم الضمان الاجتماعي ومفهوم التكامل الاجتماعي وهو ما سنتحدث عنه أن شاء الله، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن بعض تلك التعريفات لا تفي بالغرض إذ تأتي أضيق دائرة من المعرف، حيث يقصره بعضهم على ضمان العامل فقط كالتعريف الذي يقول: «الضمان الاجتماعي» الذي يقصد منه ضمان العامل ضد الأخطار التي تصيبه فتفقده عمله… فهو يشمل هنا العامل فقط، وبذلك لا يتماشى مع طبيعة العدالة الاجتماعية. وعرفه بعض رجال الاقتصاد والقانون بأنه: «تحرير الإنسان من الحاجة والعوز والحرمان» وفي هذا التعريف غموض من ناحية وضيق عن واجبات الضمان الاجتماعي من ناحية أخرى, وعبر عنه في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة الموضوع بالتعاون مع منظمة العمل الدولية وغيرها في العام 1955 بأنه: فكرة تشمل التأمين الاجتماعي والمساعدة الاجتماعية والخدمات العامة… وفي هذا التحديد عدم وضوح من ناحية، وعدم استيعاب من ناحية أخرى وخلط بين مفهومه ومفهوم التكافل الاجتماعي من ناحية ثالثة.

وعرفه أحد خبراء الضمان الاجتماعي في فرنسا بأنه: «ضمان العمل وضمان الكسب وضمان القدرة على العمل» وهذا أيضاً تضيق دائرته عن مهمات الضمان الاجتماعي، إذ ليس هو مقصوراً على العامل فقط.

المادة 22من إعلان حقوق الإنسان

جاءت المادة 22 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948 تنص على أن: «لكل إنسان بصفته عضواً في الجماعة الحق في الضمان الاجتماعي…» وأوضح الإعلان معنى هذا الضمان في المادة (25) حيث نصت على أن: «لكل إنسان الحق بالضمان في حالة البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وفي الحالات الأخرى التي يفقد فيها المرء وسائل معيشته… الخ».

ويعتبر هذا التعريف والتوضيح من أكمل التعاريف، حيث جاء بعد تبلور فكرة الضمان الاجتماعي وتطور معناه في القانون والاقتصاد، وعلى الصعيد الدولي، مع أن فيه ما فيه من الخلل، حيث يجعل الضمان للبطالة بصورة مطلقة، من أن المفهوم من الضمان أنه يشمل البطالة غير المتعمدة فقط، إذاً فجميع هذه التعاريف – عدا التعريف الإسلامي – غير كاملة منطقياً إذ بعضها غير جامع حيث يضيق عن بعض مهمات وواجبات الضمان، وبضعها غير مانع حيث يدخل فيه غير واجباته ومهماته، والشرط في التعريف أن يكون جامعاً مانعاً، لجميع أفراد الموضوع المعرف، مانعاً من الاعتبار، لذلك نوقشت هذه التعاريف بكثرة علمياً.

إذاً: فالتعريف الإسلامي هو أكمل التعاريف. مثلاً في تحديد الضمان في إعلان حقوق الإنسان جعل الضمان مسئولاً عن البطالة مطلقاً، بينما في التحديد الذي أقر الإسلام مضمونه لا يكون الضمان شاملاً الا للبطالة المشروعة، وهي غير المتعمدة، يعنى الحاصلة نتيجة عجز أو فقدان عمل، أما من لم يعمل حباً للبطالة وهو قادر على العمل، وكانت فرص العمل مهيأة له فليست الدولة مسئولة عنه، لأن إعالته حينئذ والحال هذه تشجيع له على البطالة، وهو يتنافى مع مواقع الإسلام الذي يحث على العمل ويحارب البطالة، ولأن مثل هذا يعتبره الإسلام غنياً فيحرمه من الضمان، إذ الغني في العرف الإسلامي من يملك قوت أو مؤونة سنته بالقوة أو الفعل، ومثل هذا يملكها بالقوة لقدرته على العمل وتوفر العمل لديه.

إذاً فكما كان الإسلام أسبق التشريعات وأعمقها في تقرير مبدأ الضمان الاجتماعي فهو أكملها وأوضحها في تحديد مهماته وواجباته.

لنستعرض أولاً مشكلة الفقر، ثم نستعرض الحلول الجذرية التي وضعها الإسلام للقضاء على مشكلة الفقر، ثم نستعرض الخطوط الرئيسية للضمان الاجتماعي في الإسلام.

مشكلة الفقر

مشكلة الفقر أهم المشكلات الاجتماعية وأعظمها أثراً في تأخر الأمة وانحطاطها، وهي مشكلة أصيلة في الحياة أصالة الإنسان، ومنذ عرف الناس الحياة إلى يومنا هذا. ففي المجتمع ثري يجد ما يشتهيه، وفقير لا يجد ما يسد جوعته إلا بعد عسر شديد، والفقر هو علة العلل في وجود كتل وفرق في المجتمع وما من مشكلة إلا والفقر سببها أو يشكل سبباً مهماً من أسبابها، فالسارق يسرق، والناهب ينهب، والقاتل يقتل، كل ذلك بدافع الفقر، أو بمجموعة دوافع قد يكون الفقر واحداً منها، وفشو الأمية وكثرة الجهلاء بسبب الفقر الذي عاق الآباء عن تعليم أبنائهم، ومجموعة كبيرة من المرضى وذوو العاهات يشكل الفقر سبباً رئيسياً في بلائهم, وكثير ممن ضحين بشرفهن وبأقدس شيء لديهن كان الدافع لهن الفقر، وكثير ممن احتضنتهم المبادئ والأحزاب إنما ساعدهم على احتضانهم الفقر، هذا هو الفقر وهذه آثاره ومعطياته، ولذلك اعتبره الإسلام منطلقاً للكفر والجريمة، قال رسول الله (ص): «كاد الفقر أن يكون كفراً»، وقال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر»، وقال أبوذر الغفاري (رض): «وإذا دخل الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك».

الحلول الجذرية للقضاء على مشكلة الفقر

تلك هي مشكلة الفقر فماذا يا ترى فعل الإسلام لعلاجها وماذا وضع لها من حلول؟

للإنسان حالتان، ففي حال يكون قادراً على العمل، وفي حال أخرى يكون غير قادر على العمل أما في الحال الأولى: فقد حث على العمل والكسب، وحارب البطالة حرباً لا هوادة فيها.

حرب البطالة

وتتمثل حرب البطالة في النصوص الآتية: وهي تشعر الإنسان المتعمد للبطالة بأنه عبء ثقيل على كاهل الحياة والمجتمع، فاقد للعزة والكرامة، مهين عند الله لا يستجيب له وعند المجتمع لا يقيم له وزناً جاء عن أهل البيت (ع).

* إياك والكسل والعجز فإنهما يمنعانك من حظك من الدنيا والآخرة.

* إن الله عز وجل يبغض العبد النوام الفارغ.

* ملعون من ألقى كله على الناس.

الحث على العمل

وكان حث الإسلام على العمل من أهم أقسام برامج تربيته العالية، أجل: لقد دفع الإسلام المسلمين إلى العمل والإنتاج والاستثمار عن طريق تقدير العمل، وإحداث الرغبة فيه في نفوسهم، وطبعهم على حبه، والنصوص التالية كفيلة بذلك قال تعالى: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور»، «فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله». وجاء عنهم (ع): «أن الله يحب المحترف الأمين»، «اعمل لديناك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً». «من بات كالاً عن طلب الحلال، بات مغفوراً له». وبلغ تقدير الإسلام للعمل والعمال أن رئيس الدولة الإسلامية محمد (ص) يأخذ يد عامل قد خشنت من العمل يقبلها ويقبلها ويقول: «هي يد يحبها الله ورسوله».

وكان العمل في نظر المجتمعات السابقة على الإسلام حتى عند الطبقات منهم عدا الأنبياء – كان يعتبر وظيفة العبيد ومهنة الطبقات السفلى من المجتمع.

وإلى جنب حث الإسلام على العمل ألزم الدولة بتوفير وسائل العمل لكل فرد من أفراد المجتمع وتوفير فرص العمل واتاحتها أمام كل فرد أيضاً. هذا في حال كون الإنسان قادراً على العمل، أما في حال كونه غير قادر على العمل فقد أوجد الوسائل الكفيلة بالقضاء على فقره وبؤسه وفاقته وذلك يتمثل في ما يأتي:

التكافل الاجتماعي

وحمل الإسلام مسئولية الإنفاق والإعالة لمن لا يقوى على العمل ومن لم يعمل بسبب مشروع حمل ذلك أولياؤهم الشرعيين، واعتبرهم المسئولين عنهم شخصياً أن كانوا قادرين على ذلك فالزوج مكلف بإعالة زوجته، ووجوب الإعالة هنا لها يناط الفقر، بل هو حق لها على الزوج كانت غنية أو فقيرة.

والوالدان ملزمان بالإنفاق على الولد، والولد مكلف بالإنفاق على والديه، وفي الحالات التي يكون المولى الشرعي غير قادر فيها على الإنفاق أو كان مفقوداً وكان المولى عليه فقيراً تؤمن حياته عن وسيلة «الضمان الاجتماعي» وتكون الدولة ملزمة الإنفاق عليه بما يكفيه، أو يكمل العوز في مستواه المعيشي إذا كان مكسبه لا يقي حاجته.

مسئولية ألزم المسلمين كافة بإعالة الفقراء والبؤساء وأهل اليتم وسد النقص المعيشي عندهم، والتكافل الاجتماعي وسيلة شرعها الإسلام للإحاطة بالفقراء والاطلاع على نواقصهم إذ ربما يكون منهم من لم يصل فقره إلى المسئولين في الدولة، فالإسلام يدعو كل فرد للإنفاق وتفقد الفقراء، ويترتب على هذا انه لو وجد شخص من أولئك المستحقين للكفالة الاجتماعية ولم يقم أحد من المسلمين ممن يعلم بنقصه وفقره بإسعافه وهو قادر على ذلك إثم جميع العالمين به، لأن إغاثته وإنقاذه فرض كفاية، يكلف به الكل ويسق التكليف به بامتثال البعض، فمتى تقاعس الكل عن امتثاله أثموا جميعاً.

الإسلام يربط الفقراء بالأغنياء

وقام الإسلام بربط الفقراء بالأغنياء برباط وثيق من المحبة والتعاون وحرك عواطف الأغنياء نحو الفقراء لا تكاد تجد صورة من سور القرآن إلا وهي تحرك مشاعر الأغنياء نحو الفقراء، وافهم الأغنياء بأن الفقراء أمانة في أعناقهم وان المال الذي بأيديهم ليس لهم وحدهم، بل الفقراء فيه نصيب وقسمه «وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم»، وأفهمهم بأن المالك الحقيقي للمال هو الله سبحانه وانهم ليسوا بأكثر من مشرفين وأمناء وعليهم أن يتبعوا ما يخطط لهم المالك الحقيقي من وجوه التصرف في المال.

وعالج الإسلام مشكلة التضخم المالي علاجاً جذرياً أما الأول فهو يتمثل في الزكاة «خذ أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها» «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» وفي الخمس.

أما القسم الثاني فهو يتمثل في نظام الصدقات المستحبة وفي الحث على الصدقات نصوص كثيرة: «إذا أعلقتم فتاجروا بالصدقة»، «داووا مرضاكم بالصدقة»، «صدقة السر تطفئ غضب الرب»، «من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له».

الضمان الاجتماعي حق للمواطن

أما الضمان الاجتماعي في الإسلام فهو حق من حقوق المواطنين ومسئولية إلزامية على الدولة، والخطوط الرئيسية التي سلكها الإسلام للضمان الاجتماعي تتمثل فيما يأتي:

1 – مسئولية الدولة في تسديد النقص والاعواز الذي يلحق الفرد.

والدولة مسئولة عن توفير الحاجات الضرورية للفرد في القيام بشئونه، مسئولة عن تسديد بقية نفقته ونفقة عياله وما يحتاج إليه من بيت المال.

2 – وفاء الدين: الدولة مسئولة عن تسديد دين العامل وغيره فيما اذا عجزوا عن تسديده، وكانت الاستعانة لوجه مشروع إسلاماً كالزواج وشراء المسكن وبنائه وترميمه وغير ذلك من الجهات المشروعة.

3 – الانفاق على العاجز: الدولة مسئولة عن توفير الحاجات الضرورية للفرد في حالات: المرض، العجز، الشيخوخة، الترمل، البطالة المشروعة، أي عدم الحصول على العمل، فالعاجز عن العمل لمرض أو شيخوخة أو غير ذلك إذا لم يكن له مال ولا ولد ينفق عليه تكون الدولة مسئولة عن الإنفاق عليه.

تفقّد أحوال الرعية وتعيين المحتاجين

الدولة في الإسلام مسئولة عن اتخاذ شتى الأساليب اللازمة لتفقد أحوال أفراد الأمة وتعيين أهل الحاجة منهم، كأن تؤلف الجان وتشكل الهيئات لهذه الغاية فتفحص عنهم وترفع التقارير إلى المسئولين عن رعايتهم ليقوموا بإصلاح شأنهم المعيشي إذ ربما يكون ملا يقوى على الوصول إلى المسئولين أو توجد أسباب تعجز بينه وبين المسئولين، و بلغ من اهتمام الإمام أمير المؤمنين (ع) في أيام حكومته – على ما يحدث المؤرخون – أن وضع بيتاً سماه بيت القصص يلقى فيه الناس رقاعهم لتحمل حاجاتهم إلى الإمام.

فهل بعد هذه الوسائل والخطوط العريضة التي وصفها الإسلام يبقى في المجتمع المسلم فقير يشكو ضنكا في العيش أو سوءاً في المعيشة، وهل بعد هذا التشريع يوجد ظل للفقر في المجتمع الإسلامي، ثم هل ترجوا الإنسانية أن تنعم بالكرامة والعدالة الاجتماعية في ظل غير النظام الإسلامي؟

وأخيراً أليس بحق لنا أن نتحدى بتشريعات الإسلام وواقعيته وعدالته جميع الايديولوجيات السياسية والأنظمة الأرضية، ونقف خاشعين أما عظمة الإسلام ونبي الإسلام (ص).

 

 

الجمري وفكر المقاومة السلمية… صفحات من السبعينات

الوسط – جعفر الجمري

لا يطول بك العمر كثيراً كي تكتشف الفارق بين بشر ولدوا فقط ليختبروا أعضاءهم وأجهزة تنفسهم، وبشر ولدوا كي يعطوا الحياةَ معنًى كبيراً. معنًى يؤدي بهم إلى التصدّي للقضايا الكبرى التي تؤكد محورية ومركزية الإنسان في ذلك المعنى وذلك الوجود. ثمة بشر لا يتحسسون أهميتهم وعمق معناهم ما لم يتصدوا للقضايا الكبرى والمكلّفة. القضايا التي قد تودي بهم إلى عذابات ربما لا يحتملها الجنس البشري. وإن احتملها تكون قد أخذت منه كل مأخذ. وثمة بشر يوهمون أنفسهم بالأحقية في الاستحواذ على ذلك المعنى حتى إن ساهمت حيواتهم في تعميق حال من الهوامش، واستبعاد وإقصاء مناطق المركز التي من المفترض أن يكون الإنسان في الصميم والعمق منها. برحيل سماحة العلامة الكبير الشيخ المجاهد عبدالأمير الجمري، تكون قد طُويتْ واحدةٌ من أنصع الصفحات في تاريخ البحرين – حديثِه وقديمِه – حديثه؛ لأن المرحلة التي اشتغل فيها الراحل الكبير كانت ممعنةً في ضخ مزيد من التعقيدات في أوردتها، وممعنةً في التفنن في سد الأفق وحجبه، وكان لزاماً في هكذا محيط ومكان وزمن محتقن أن يصار إلى منهج واجتراح رؤية تستطيع أن تفتح كوّةً في تلك الجُدُر العملاقة التي عملت عملها على تحويل كثير من البشر إلى مجرد أشياء – أو هكذا توهّمَ حُرّاس ونواطيرُ تلك الجُدُر – وقديمه؛ لأن حجم القبضة التي أمسكت خناق حركات التحرر كانت كفيلةً – على أقل تقدير – بالحد من فتوّتها وانطلاقها وسعة أحلامها وامتداد تطلعاتها.

راهناً، تظل نماذج المجالدة والجهاد والنضال محتلةً مساحات كبيرة من ذاكرة الأفراد والمكان، عدا ذاكرةَ الزمن، إلا أن المحصّلات النهائية والحاسمة لتلك المجالدة والجهاد والنضال نادراً ما تأتي باليسير من النتائج قبالةَ قبضات أمنية عسكرتارية متعددة ومتلونة وقادرة على الامتداد في تجربة المجالدة والمواجهة التي استنّها العلامة الراحل ضمن مبدأ المقاومة السلمية التي تبنّاها وتصدى لها. نكاد نقف على تجربة شبه يتيمة لم تعرفها دول المنطقة والحركات والأحزاب التي دخلت في مواجهات مع الأنظمة وخصوصاً في مرحلة ما بعد رحيل الانتداب البريطاني عن دول المنطقة، حيث كانت الحركات اليسارية التي مثّلت – وقتها – العنوان العريض لمواجهة بعض الأنظمة خارج سياق المقاومة السلمية وعناوينها سواءٌ أكانت على مستوى الخطاب أم على مستوى ما بعد ذلك الخطاب. وعلى رغم عقود ثلاثة أو تزيد، فإن العنف على مستوى الخطاب والممارسة لم يؤتِ ثماره إلا بعد مراجعة شاملة ربما مست الممارسة، ولكنها ظلت متمسكةً بعنفها على مستوى الخطاب، والعودة إلى الأدبيات تضيء جوانبَ عريضةًَ مما تذهب إليه هذه الرؤية. لم يؤمن سماحة الراحل الكبير – وضمن قراءته طبيعة المرحلة واشتراطاتها – بالعمل السري، مدركاً تمام الإدراك طبيعة التغيرات التي انتابت العالم ومسّته، ولم تجئ العريضة الأولى التي تصدى لها ولاقت استجابةً كبيرةً من أطياف ورموز متعددة في المجتمع البحريني إلا تأكيد لرياديته وتوجهه بكل مداركه نحو المقاومة السلمية التي كان يؤمن تمام الإيمان بمحصّلاتها ونتائجها بعيدة المدى. وعلى رغم الإرهاصات والدلائل التي تشير إلى نتائج سيدفع ضريبتها جنباً إلى جنب مع المؤازرين له حتى المتعاطفين معه – وذلك ما حدث – فإنه أعقبها بعريضة ثانية كان لها وقع ومحصلات ونتائج دفعت بالبلاد إلى نفق حرصت السلطة وقتها أن يكون معتماً ولا ضوء في نهايته بحسب تقديرها الذي توصلت إليه في ظل انفعال أمني واستخباراتي قاد البلاد وقتها إلى محرقة كان لها أول من دون أن يجزم أحد من أطراف السلطة أن لها آخرَ.

قبل أيام من احتضار أبي في نهاية العام 1974 طرق الباب الخشبي. لم تكن القرية وقتها عامرةً بالعمائم. كان هو صاحب العمامة الوحيدة. بوجهه السمح وابتسامته التي تكاد تكون جزءاً من بياض عمامته سألني إذا ما كان والدي في الدار. لم أضيّع الوقت أذنت له بالدخول لعلمي أنه لوحده مشغول بسعاله الدهري. أخذ مكانه إلى جانبه بعد أن أفاض عليه بوافر الأدعية. في زاوية من الغرفة العطنة أخذت مكاني متأملاً العمامة. متأملاً أبوّةً كم كنت أتمناها أمام قسوة وصلف لا نهائي منه. هي المرة الأولى التي أتمنى فيها استبدال أبي. الأطفال الذين يصلون إلى مرحلة الإحساس بضرورة استبدال آبائهم يعانون فائضاً من القسوة والخوف والرعب بحيث تستفزهم الصور والمواقف النقيضة.

كنت ملازماً لصمت هو صورة نقيضة لمنزل طالما ظل مليئاً بالعنف والقسوة والصراخ، لم يفوّت سماحته وقتها فرصة تخريب تلك الصورة، سؤالاً عما أدرس؟ وإلى أي مدرسة انتسب؟ وما الذي أتمنى أن أصل إليه؟ أسئلة في الصميم من الغرابة؛ لأنها خارج سياق العلاقة؛ وخارج سياق السؤال عن الصحة والنفس والحاجة. أسئلة لم تكن متبادلةً على الإطلاق داخل البيت الواحد. أسئلة تضعك أمام رجل مؤهل للتصدي لأسئلة أكبر وأعمق تطول الجماعة والأمة بل وتتجاوزهما إلى المحيط الأكبر في بعده الإنساني.

حرائق الحويجية

لم تكن القرية (بني جمرة) في المركز، مثلها مثل جميع القرى في البحرين. كانت في اللب من الهامش. وحين يفتعل أحدهم حريقاً يزيد من عمق وتأكيد ذلك الهامش؛ لأن سيارات الإطفاء تكون مشغولةً بالمباني متعددة الطوابق والمزارع المسوّرة بأناقة مستفزة. «الحويجية»: مُزيرعة تعهدها سماحته بالمألوف من احتياجات البيت اليومي. لم تكن مستفزة بمساحتها وسورها المتهالك المكون من سعف النخيل. بعد تكرار الحريق أضيف إليها سور من «السلك». حرائق أشعلها المختلفون معه، وكان وقتها في بداية التحاقه بسلك القضاء. الجهات نفسها لم تخفِ في غباء بيّن نشوتها وتفاخرها بتكرار الفعل. لم يك صدره ضيّقاً حرجاً. كان يكتفي بالاحتساب: (حسبي الله ونعم الوكيل). فيما نجد – وقتها – في هكذا احتساب دعوة مفتوحة لهم لتكرار المحاولة، وخصوصاً مع تكررها. لم نك نعي جيداً إلى أين يذهب هذا النفَسُ الطويل. لم نك نعي أن حرائقَ أكبرَ وأشملَ سيقدّر لها الوطن أن يشهدها بفعل ذهاب السلطة وقتها نحو الدرجة القصوى من التعنت والإصرار على الخيار الأمني، ولم نك نعي أنه بعد عقود من تلك الحرائق المفتعلة في البيت الواحد ومن ذوي القربى، سيقدّر له مع آخرين أن يتصدى لحرائق كان من الممكن أن تأكل بلهبها الأخضر واليابس.

الطريق إلى المحكمة

يذكر الأخ والصديق عبدالله الكَيس أياماً كنا نتبادل فيها قيادة سيارة سماحته لالتزامه عدداً من المجالس والفعاليات والصلوات الأسبوعية. سماهيج، القدم إضافةً إلى المحكمة. صادفتنا أيام أمام مقر بيته القديم المجاور لمنزل شقيقه محمد بن ناصر، والمواجه لبيت عمه (والد زوجته) المغفور له بإذن الله تعالى خطيب المنبر الحسيني الملا يوسف بن الملا عطية بن علي الجمري، بإطارات سيارته «الفولفو» وقد عبث بها؛ ما يستغرق وقتاً لإعادة الأمور إلى نصابها المؤقت حتى صباح اليوم التالي. كان يبدي انفعالاً على الحال التي وصل إليها المختلفون معه، ممزوجاً بالشفقة عليهم. في الطريق لا يتيح لأي منا الخوض في أي حديث؛ لأنه وقتها يكون مشغولاً بالذكر طوال الطريق، سواءٌ أكان أحدنا هو الذي يقود السيارة، أم كان هو الذي يتولى القيادة. ما لفت نظري في أول يوم أشهد حضوره في المحكمة – وكان زميله في المحكمة نفسها العلامة الراحل الشيخ محمد صالح العريبي – أن عسكرياً يؤدي التحية المعهودة لرجل معمّم؛ لأنه استقر في وعينا أن التحية المذكورة وخصوصاً عند البوابات لا تتم إلا لذوي النياشين والأوسمة والرتب العسكرية ومن هو في تصنيفهم، ولكنها المرة الأولى التي أرى فيها عسكرياً يؤدي التحية لمعمّم!

 

 

كأنَّ صدودَهُ قُبَلُ

شعر – جعفر الجمري

الى المنْهَل الأول… شيخِ الصابرين والمجاهدين، سماحةِ العلاّمة الشيخ عبدالأمير الجمري (قدّس سرّه). 

مَشَى في إثْرهِ الخَجَلُ

وَمَا اهْتَزَّتْ لهُ حُلَلُ 

عَلَى مَاءٍ مَشَى حَتىَ

كَأَنَّ المَاءَ ينْتَهِلُ

لَهُ في ذِرْوَةٍ قَمَرٌ

إِذَا مَا شَاءَ يَنْتَعِلُ

إِذَا مَا ابْتَزَّهُ وَجَلٌ

طَغَى مِنْ فَيْضِهِ الأَمَلُ

وَممَّا جَدَّ مُحْتَسِبَاً

كَأَنَّ «صُدُودَهُ» :»قُبَلُ»

لَهُ فيمَا انْتَهَى «أَجَلٌ»

بَدَا في مَوْتِهِ «الأَزَلُ» 

سَئِمْنَا «رَقْصَةً» سَفُهَتْ

كَأَنَّ مَجَالهَاَ «الشَلَلُ»

لنَا في «جذْوَةٍ» سَبَبٌ

لهَا منْ رُوحِهِ «شُعَلُ»

لنَا مِنْ غُرْبَةٍ وَطَنٌ

إِذَا مَا شَاءَ تُحْتَمَلُ

وَلَكِنَّا بمَا رُزِأَتْ

بهَا آلامُنَا «جَبَلُ»

سَلاَمَاً أيُّهَا الخَضِلُ

بمَا أبْدَيْتَ نَكْتَحِلُ

كَأَنَّ حُضُورَنَا سََفَهٌ

بمَا أُوتِيتَ تَخْتَزِلُ

لنَا في «النَقْصِ» مُدَّرَكٌ

إِذَا مَا جِئْتَ «يَكْتَمِلُ

مَشَى في إثْرِنَا «طَلَلٌ»

وَأَنْتَ بِعِزَّةٍ «دُوَلُ»

لنَا في جذْوَةٍ «يَبِسَتْ»

بهَا مِنْ رُوحِكَ «البَلَلُ»

وذُبنَا فيكَ «مُرْتحَِِلاُ»

بمَا أُمِّنْتَ نَرْتَحِلُ

«صَحَا» فيمَا ارْتَأَى نَفَرٌ

لهُم في صُدْفَةٍ «خَبَلُ»

فَمِنْهُمْ مَنْ غَدَى عَبَثَاً

إِلَى لَذَّاتِهِ يَكِلُ

وَمِنْهُمْ مَنْ غَدَى عَجِلاً

إِلَى الأَوْهَامِ يَنْتَعِلُ

وَمِنْهُمْ مَنْ غَدَى صَنَمَاً

إِلَى الأَصْنَامِ يَبْتَهلُ

وَظَلْتَ الحُرَّ نَعْرفُهُ

إِذَا مَا اسْتَحْكَمَ الخَلَلُ

وَظَلْتَ العَيْنَ نَعْرفُهَا

إِذَا مَا انْتَابَهَا حَوَلُ

وَظَلْتَ الحَرْفَ «مُبْتَدَءاً»

بهِ مِنْ «خُبْرِنَا» جُمَلُ

وَظَلْتَ العَزْمَ مُحْتَسِبَاً 

بمَا رُبِّيتَ تَشْتَمِلُ

وَظَلْتَ النَأْيَ مُقترِباً 

وَظَلْتَ القُرْبَ يَمْتَثِلُ

لنَا جُرْحٌ نُرَتّبُ

بَعْضَهُ وَالبَعْضَ تَخْتَزِلُ 

أَمِنْ محْضِ اللَظَى

يَا صَاحِ نَسْتَجْدِي وَنَقْتَتِلُ؟

 

 

فبه يضيق القبر!

عرف الزمان على مداه رجالا

لا ترتضي غير الخلود مآلا

فإذا دنت آجالها لا تنحني

لهوى الفناء وتقهر الآجالا

فكأنما نذر الممات بشائر

أو تهنئات كالندى تتوالى

الموت يلبسها الحياة بحلة

تسمو على حلل الحرير جمالا

تلك الرجال إذا دنا ميعادها

أبداً تمد إلى القلوب حبالا

خلقت لتحيا في الصدور منابعا

تسقي الضمائر والنفوس زلالا

تلك الرجال على اللحود تغلبت

وتغلغلت بين الضلوع وصالا

تلك الرجال أبت حياةً عمرها

سبعون إن ذا العمر دام وطالا

تلك الرجال عوالم لا تنتهي

ولها هو الجمري كان مثالا

صنع الحياة فهل يجول الموت في

شريانه ويعطل الأوصالا

أيموت من بعث الحياة بأمة،

وأطاح من أرقابها الأغلالا؟

أيموت من شغلته أنات الورى

عن نفسه فتجرع الأهوالا؟

أيموت من أمضى الليالي مفردا

ولمطلب الإصلاح صال وجالا؟

أيموت من سكن السجون بشيبة

بين القيود ليصلح الأحوالا؟

أيموت من في سبته بذلت له

مهج ولم تخشَ دما وقتالا؟

أيموت من في معصميه حمرة الـ

ـقيد الثقيل تخالها خلخالا؟

أيموت من وجع السنين أحاله

جبلا أشم يعلم الأبطالا؟

أيموت من لبس النضال عباءة

روى بها ظمأ الحشود زلالا؟

أيموت من لبس المعزة عمة

تأبى الخنوع وترفض الإذلالا؟

أيموت من أحيا الحياة بأنفس

شربت كؤوس المر والأوجالا؟

أوما أقام الموت عند فراشه

زمنا فطال به المقام وطالا؟

خجلا رعيد الموت من سكناته

ماذا بقي إن منه سل ونالا؟

خجلا أينزع روحه وهي التي

كانت على رأس الضعيف ظلالا؟

خجلا أيوقف قلبه وبنبضه

يتلو الكتاب ويعقد الآمالا

خجلا أيغمض عينه وبعمقها

غيث على بحر البطولة سالا؟

خجلا أيربط بالزؤام لسانه

ولكم به قول الحقيقة قالا؟

خجلا أيطمر سمعه وبأذنه

صوت الكرامة والإباء تعالى؟

حتى وإن للموت مد ذراعه

وعليه طير الموت حط ومالا

حتى وإن في القبر غيب شخصه

وعليه أكوام التراب أهالا

لا لن تموت مواقف قد شرفت

أرض الخلود «أرادوساً» و «أوالا»

حفرت له البحرين بين ضلوعها

قبرا وأقبل أهلها إقبالا

نثروا الورود عليه وهي ندية

بالدمع ساعة أعولوا إعوالا

صعقت من النبأ الأليم أضالعاً

ولها الشجى والحزن صار منالا

زحفت لتشييع الوداع مواكب

من كل فج بالأسى تتوالى

حتى التقته بالسواد مبرقعاً

في ليلة ندب الهلال هلالا

أشجى القلوب مشيعاً والعمة الـ

ــبيضاء فوق فؤاده تتلالا

كالشمس في ليل بهيم أشرقت

لتتوج الحشد الغفير جلالا

وتخط بالنور البهي رسالة

لتنور الأجيال والأجيالا

إن الجميل أبا جميل لم يمت

وجماله يهب الجمال جمالا

حي بأفئدة الألوف ولم يزل

يزداد في عين الكمال كمالا

فبه يضيق القبر كيف لحفرة؟

عجبا تضم من الكنوز جبالا

عقيل ميرز

 

 

 

ما قاله الخطيب العدناني في رثاء الشيخ الجمري

هذه هي آخر قصيدة نظمها الخطيب العدناني السيدمحمد صالح عدنان الموسوي في رثاء العلامة المجاهد عبدالأمير الجمري المتوفى فجر الإثنين 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006. وقد توفي الخطيب العدناني بعد شهر من نظمه القصيدة وذلك في 18 يناير/كانون الثاني 2007.

عز الإبا عنكِ يا بحرين قد رحلا

وزال عن كل من فيك الخضوع هوى

وصار يشري بما يعطي ضمائرهم

الله ماذا أبومنصور من محن

مازال تحت جميل الصبر مضطهداً

قضت على عينه والسمع فانمحقا

حتى استجاب لأمر الله فالتمعت

فارتجت الأرض في البحرين معوِلة

وأقبلت زمر التشييع طائرة

كادت تغسله مما له سكبت

وعن نسيج من الأكفان أفئدة

وكان من حقه ألا يقام له

بل أن يوارى مواراة الشهيد فقد

أبا جميل فسر نحو النعيم فما

نظرت دستورهم جوراً وكنت لهم

وصغت مما بنو فيه معارضة

فأدخلوك سجون الحبس من سجن

زرعت منه لتحرير البلاد نوى

بك اقتدت رؤسا التحرير ثائرة

مظاهرات وإضراب وبعدهما

إن غبت شخصاً فعنا لم تغب كلِماً

فبعد عبدالأمير اليوم طائفة

هذا علي بن سلمان ويتبعه

جاءت لتشييعك الأقطار ترفع

لم يثنهم مطر يهمي وبعد مسافة

والمركبات إذا مرت ترجلت الر

لو المليك بهم يجتاز جاء لهم

أما أنا فلقد والله قمت إلى

لكن سقمي أعياني القيام به

وسقت عني جمالا فاضلا ورضا

بالدار جسمي وروحي معهم انتقلت

عفواً وعذراً بني عبدالأمير إذا

فالسقم مني كما أوهى الفؤاد قوى

والذل والبؤس في أبناك قد نزلا

ما كان يخشاه من أبنائك النبلا

ودينهم فاغتدوا رقاً له خولا

لاقى وماذا من الذل الذي احتملا

حتى تفرع في جثمانه عللا

وأوسعت كل أعضا جسمه عطلا

أنواره تسبق الأملاك والرسلا

حزناً به كل طرف عاد مكتحلا

من كل فج وصوب تقطع السبلا

من المدامع لولا دمعها انتقلا

ودت تكفنه ممن له احتملا

غسلٌ ولا كفنٌ إذ في المقام علا

قضى شهيداً وفيه الفضل قد كملا

قضيت دنياك إلا في أسى وبلا

قاضٍ فآثرت ترك الحكم معتزلا

نالوا كما نلت منها الضر والوجلا

لآخر حيث ما من منكر حصلا

أضحى نخيلاً طوالاً تثمر العسلا

في كل قطر لمن عن حقهم عدلا

للاعتصام ومنه تبلغ الأملا

أو غبت موتاً فعنا لم تغب بطلا

قامت لتعمل ما بالأمس قد عملا

حزب الوفاق أعاد اليوم ما انفصلا

أعلام السواد بدمع أعمش المقلا

وشعر رثاء يهمل المقلا

كاب منها إلى التشييع كي يصلا

بعمه وولي العهد مشتملا

تشييعه أسبق الأقوام والمللا

فصرت أدعو لمن بالموكب اتصلا

ومعهم الروح راحت تسبق الرسلا

تلقي على نعشه الأزهار والحللا

قصَّرت في شيخكم مدحاً كما سألا

أوهى القريحة والأفكار والنحلا