الشيخ الجمري تاريخٌ صنعته العذابات والسجون

الحديث عن الشيخ الجمري حديث ذو شجون وآلام، فالشيخ أعطى كلّ ما يملك وحين تحقّقت بعض ثمار النصر غاب عن الأنظار حاله حال الشهداء، فقد شاءت القدرة الإلهية أن يستريح المحارب لحكمةٍ نسأل الله أن يُديم لطفه عليه ويُعجِّل بشفائه خصوصاً والساحة الآن في أمسّ الحاجة إليه، فالشيخ لم يكن فيلسوفاً ولا مفكّراً أو منظِّراً، لكنّه بلا مبالغةٍ كان أباً عطوفاً على أبنائه وسياسياً لا تفوته فرصة، ورجل المبادرات، وكان رجلاً له تاريخ صنعته العذابات والسجون وفي هذا الكلام تفصيل.

 

 

  1. أبـوّة الـسـاحـة: 

فلم يكن هناك حدّ أو فاصل يفصله عن أبناء الشعب رغم انشغالاته وكبر سنّه وتدهور صحّته، فزياراته لأهل البحرين شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً بقدر الإمكان لم تتوقّف سواءً في المناسبات أو الأعراف، وسواءً في وقت الشدّة أو الرخاء فباب الشيخ ظلّ مفتوحاً للرجال والنساء والشباب والشابّات. وكان دائماً قلباً حنوناً على الشباب بالخصوص حين يحتاجون للدعم المادي أو المعنوي, وإذناً صاغية لكلّ مشاكلهم وهمومهم الخاصّة والعامّة. وكان متواضعاً يجلس مع الصغير والكبير يُشاورهم ويُشاورونه ولا يجد في نفسه أيّ غضاضةٍ أن يعمل برأيهم إذا وجد فيه مصلحة أو ثبت في رأيهم صحّة.

ولستُ أبالغ حين أقول إنّه ما كان يُفرِّق بين أبنائه وكلّ الشباب خصوصاً أيام المحنة ولعلّكم تذكرون حين عُرِضَ عليه إطلاق سراح أبنائه مقابل السكوت عن المطالب فردّ على الوسيط قائلاً” كلُّ الشباب أبنائي” قالها رغم التهديد والوعيد ورغم مرارة الفراق وشدّة الألم الذي كان يعتصره من فراق الأبناء بعضهم في السجن والبعض الآخر في المنافي.

 

 

  1. وسطيِّ الخط:   

ولأنّ شعوره بالأبوة كان صادقاً لم يستطع أن يعيش بعيداً ولا منعزلاً عن أبنائه وإنّما كان دائماً حاضراً بينهم يتحسّس آلامهم ويدافع عن ظلامتهم.

فلم يسمع عنه يوماً- وذكروني إن نسيت-أنّه وقف موقفاً سلبياً من أيّ قضية كان يستطيع فيها أن يقول شيئاً مؤثراً فسكت أو يقوم بعمل إيجابي فتراخى.

بل كان حاضراً في الساحة الحضور الفعال على الصعيد الاجتماعي والسياسي لم يمنعه خوف ولا تعذّر بأعذار.

دخل في القضاء حين كان البعض يعارضه ويشكك في صحة قراره، لكنّه دخل لقناعته في حاجة الناس للحلول العملية بدل التنظير والتماس الأعذار. دخل بعد أن حصل على الإجازة الشرعية وظلّ محافظاً على نهجه وانفتاحه على مشاكل الناس حتى ضاقت الحكومة به ذرعاً ففصلته فخرج كما دخل نظيفاً خدم الناس بقدر الاستطاعة دون أن يتنازل أو يساوم في دين الله.

وفي الوقت الذي كان الشيخ يصرّ على التمسّك بالثوابت والأصول الإسلامية إلا أنّه كان يحمل عقلاً منفتحاً جمعه في العمل الإصلاحي حتى ببعض الذين يتبنّون أطروحات أخرى حين رأى فيها للوطن مصلحة وليس فيها على الدين مفسدة.وقبل ذلك كان أهم ما جمعه نهجه المنفتح لقاءه بالعلماء والقيادات الإسلامية أمثال المرجع الإسلامي سماحة السيد فضل الله وسماحة السيد حسن نصر الله في بيروت والمهندس إبراهيم غوشة ومحمد نزال  قيادات حماس و د.عبد اللطيف عربيات أمين عام جبهة العمل ونقيب المحامين صالح العرموطي والمهندس ليث شبيلات في الأردن وكذلك سماحة الشيخ حسن الصفار في المملكة العربية السعودية وأخيراً مشاركته في مؤتمر انقاد القدس في بيروت.

 

 

ولعلّ أكثر ما كان يُميّز الشيخ في كلّ سنيِّ الجهاد التزامه النهج السلميّ حتى في أحلك الظروف عندما كانت مسيّلات الدموع والرصاص يتساقط على رؤوس الناس كالمطر.

وليس هذا بادِّعاء، فالكل يستطيع أن يُراجع خطب الشيخ وبياناته الموثّقة ولن تجد كلمة فيها عنف ولا دعوة فيها تحريض. ولو كان بالإمكان لما احتاجت  أجهزة المخابرات لمحاكمةٍ صوريةٍ تفتقر لأبسط الحقوق.

وهذا لعمري هو الخط الوسطي الذي التزم به الشيخ ودعى إليه في خطبه، حضورٌ فاعلٌ، انفتاحٌ إيجابيٌّ ونهجٌ سلميٌّ لأهدافٍ عادلة.

 

 

  1. رجل المبادرات:

فلم يكن ليقبل أن يرى الساحة تحترق في حضوره فيغلق بابه خلفه وينام , وما كان يفّوت أيّ فرصةٍ يمكن أن يحقّق من خلالها بعض الحقوق فيتقاعس حتى وإن كلّفه ذلك السجن والتشريد له ولعياله.

 ولذلك تقدّم مع إخوته من المخلصين بالعريضة الأولى ثم الثانية بعد غزو العراق للكويت حين ارتفعت بعض الأصوات المطالبة بالإصلاح في المنطقة.

 ولم يمنعه أيضاًً أن يتقدم مع إخوته من داخل السجن بالمبادرة رغم سقوط الشهداء واعتقال الآلاف وتهجير المئات التزاما بالأسلوب السلمي وحفاظاً على مصلحة الوطن.

ولم ينس الشيخ واحد إبريل 1995م حين احتاجت الحكومة لألف من قواتها لاقتحام منزله , ولم ينسى الزنزانة الانفرادية لثلاث سنوات ونصف ولا المحاكمة الظالمة، ولم يكن ساذجاً بتفاصيل الميثاق وبنوده لكنّه ما أن رُفعت عنه الإقامة الجبرية حتى تقدّم بمبادرة الموافقة على الميثاق بشرط إطلاق سراح المعتقلين وعودة المبعدين وعودة الحياة النيابية لأنّ همّه الوطن وشغله الشاغل مطالب الناس.

 

 

وحتى على الصعيد الاجتماعي ورغم اختلافه مع سماحة المرحوم الشيخ سليمان المدني حول عدالة القضية وضرورة المطالب إلا أنّ الشيخ الجمري وعندما تهيّأت الفرصة المناسبة لم يتردّد في دعوة الشيخ المدني لزيارة منزله ثمّ ردّ الزيارة إليه في منزله لاحقاً منهياً لذلك الملف المعقّد ولو لم يفعل وتوفيّ المرحوم لأخذ أشكالاً خطيرة تهدّد البيوت وتمزّق العوائل قد لا تنتهي حتى قيام الساعة.

 

 

ومهما نسينا فلن ننسى زيارته التاريخية لجمعية الإصلاح ودعوته المخلصة لرصِّ الصفوف واتحاد القلوب، والإلتفاف حول راية الوطن، والحقُّ يُقال أنّ أهل المحرّق الكرام وعلى رأسهم سعادة الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة ردّوا التحية بأحسنَ منها، وشاركوا بثقلٍ كبير من رموزهم في أكثر من مناسبة توِّجت بتشكيل لجنة تنسيقية لكنّ غياب الشيخ حال دون تفعيلها وتبقى المبادرة خطوة تنتظر الإستثمار.

  1. رجل المواقف: وما كان الشيخ يرفع شعاراً إلا وكان أول العاملين به، وما كان يطالب الناس بالعمل ثم يتراجع ويختبئ حفاظاً على سلامته وسلامة أهله.

عرفه الناس عند سقوط الشهداء فكان أول المصلّين على جسد الشهيد هاني في السنابس وهاني الوسطي في جدحفص، والوحيد يستنهض الناس في الدراز للصلاة على جسد الشهيد عبد الحميد رغم كثافة قوات الأمن وغزارة مسيلات الدموع.

وعرفه الناس يقيم صلاة الجماعة في بني جمرة والدراز وفي مسجد الصادق(ع) بالقفول حتى في أوقات الحصار واستخدام الشرطة للهراوات والرصاص المطاطي. وعرفه الناس حين اعتصم مع رفاقه احتجاجاً على نكران الحكومة للمبادرة وتخلّيها عن تنفيذ البنود فلم يتردّد خوفاً وهو يعرف حجم التهديدات الخطيرة التي توالت عليه حين سمح بأن يكون منزله معقلاً ومركزاً لأكبر حركة احتجاج عرفها تاريخ البحرين إذ وصل عدد المحتجين في الليلة الأخيرة لما يقارب الخمسين ألفاً.

ولم يتأخّر حين سمع بنية الملك تعديل الدستور على غير ما تم الاتفاق عليه بادر أولاً بالاجتماع به ونصحه ولكن عندما أعلن التعديل أعلن الشيخ في خطبة الجمعة بمسجد الصادق بالقفول على الملأ بصراحة ودون مجاملة ولا خوف موقفه الرافض.

  1. رجل له تاريخ: حينما أجبر الشيخ على الظهور على شاشة التلفاز وهو يعتذر, صُدِمَ الناس الذين تهيّئوا للإحتفال بخروجه وخيّم الحزن تلك الليلة على معظم القرى ولم يتمالك الآباء والأمهات وخصوصاً أهالي المعتقلين والشهداء وهم بالمئات والألوف دموعهم وحار شباب الانتفاضة في فهم ما حدث، إلا أنّ كل ذلك وعلى عكس ما خطط له المتآمرون، فشل في زعزعة ثقة الناس في شيخهم أو النيل من مكانته في قلوبهم. وإنّما حرّك في نفوسهم الغيرة والحمية، فما حدث للشيخ كان إهانة وإذلالاً لكرامة كلّ المجاهدين.

   فالكل باستثناء المتربِّصين والمنتفعين وأعداء الشعب، تفهّم الخطأ الذي ارتكبه الشيخ مجبراً.

 فلا يمكن لشيخ في سنّه مثقل الجراح يتعرّض للضغط والإهانة في سجنٍ انفراديٍّ لثلاث سنوات ونصف أن يصمد، فلم يكن ذلك المشهد إلا نتيجة لفصول من التعذيب المنظّم والحرمان من الدواء والعلاج تخلّلتها مؤامرات ودسائس شارك فيها حتى بعض السجناء ويبقى الفضل كلّ الفضل بعد الله تعالى لوعي الناس وإخلاصهم في كشف المسرحية وإحباط المؤامرة وإلا لما احتاج المتآمرون لفرض الإقامة الجبرية والحصار لفصل الشيخ عن أتباعه ومحبّيه.

 

 

وخرج الشيخ أخيراً من الإقامة الجبرية أكثر إصراراً على خدمة شعبه واستقبلته الجماهير استقبال الأبطال بالزهور والرياحين في جامع الإمام الصادق(ع) بالدراز.

وفي الحقيقة ,ما كان لأحد أن يعبُر ذلك المنعطف الخطير ويعود لموقعه كما كان كبيراً في قلوب الناس لو لا ذلك التاريخ الطويل من النضال بدأه من النجف الأشرف مُتفقِّهاً في الدين لأكثر من أحد عشر عاماً عاد بعدها لبلده نائباً في برلمان الثلاث والسبعين وقاضياً ثمّ رمزاً ومعارضاً لا يكلُّ ولا يمل, ويبقى الجمريُّ حتى يعود(إن شاء الله) تاريخاً من النضال والعذابات ولحناً يستلهم المصلحون منه العزم والثبات.

عبد الجليل خليل