القومية و الوطنية و الروح الإسلاميةالشيخ الجمري قيم إنسانية سامية ومواقف خالدة

بعض فصول حياته “أطال الله في عمره” والتي رواها لنا ابنه “صادق” أكثر أبنائه قرباً له بحكم الظروف المحيطة بهم، كشفت بعض الجوانب الخفية من شخصية الشيخ الجمري حين التقت به “الشاهد” لتسلط الضوء عليها في محاولةٍ للشهادة على مواقف رجل أضحى بقيمه أبا للشعب .


من يكون الشيخ الجمري ؟


يدعى عبدالأمير بن منصور بن محمد بن عبد الرسول الجمري، نسباً لقريته بني جمرة إحدى قرى البحرين الأصيلة، من عائلة كريمةٍ عرفت بالتقوى والإيمان، فوالده الحاج منصور كان معلماً للقرآن الكريم في القرية وجده تاجراً للأقمشة بالعاصمة المنامة، كما تربطه القرابة مع مجدد المنبر الحسيني الملا عطية الجمري، ولد في الثلاثينيات من القرن  الماضي وتحديداً في عام 1937 للميلاد،

 درس في مدرسة البديع الابتدائية للبنين ثم درس على يد الملا جاسم بن نجم الجمري، وعمل خطيباً حسينياً مع الملا عبد الله البلادي قبل أن يستقل بخطابته في السابعة عشرة من عمره. كما تتلمذ علي يد كلٍ من الشيخ عبد الله بن محمد صالح، الشيخ باقر العصفور والسيد علوي الغريفي، قبل أن يشد الرحال ليبدأ رحلته في التحصيل العلمي والفقهي في النجف الأشرف عام 1962، فقد عكف على دراسة المقدمات والسطوح والبحث الخارج، في حين ربطته علاقات قوية من المراجع العظام في الحوزة الحيدرية آنذاك .


لمحة عن حياته ومواقفه ..


الرأفة والرحمة والعفو واحترام الغير ولو كان ظالماً له، خصالٌ قليلة من خصاله التي تميزه عن أقرانه في الساحة، فصبره وحلمه الذي لم يبخل به على أحد حتى خصومه، جعلت الجميع ينحني إكباراً، فمواقفه البطولية على مر حياته وروح الوطنية التي ميزته منذ أن كان قومياً في الستينات ومشاركاته في المسيرات المناهضة للوجود البريطالي والمؤيدة للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يعشقه في تلك الحقبة، مروراً بمواقفه في النجف الأشرف إزاء المشهد العراقي آنذاك، إلى أن انتخب عضواً في المجلس الوطني نزولاً عند رغبة الأهالي وبمباركة المراجع بالنجف، وكذلك حين ُعيّن قاضياً بالمحكمة الجعفرية كان ذلك بعد إصرار المراجع عليه لقبول هذه المهمة لخدمة المجتمع والناس، ولا يمكن لأيِ كان تناسى مواقفه في أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، فكل هذه وتلك تشهد على انه رجلٌ قلما نجد نظيراً له.


مواقف خالدة


ويذكر “صادق” أن والده رجل أسرة من الطراز الرفيع، فيما يعتبر أن العلم هو أساس التقدم والرقي الإنساني لذا يذكر لنا “صادق” أنه في عام 1982 كان معتقلاً الأمر الذي منعه من الحصول على
شهادة حسن السيرة والسلوك إثناء تخرجه من المرحلة الثانوية، وبعدم حصوله على هذه الشهادة منع من مواصلة التحصيل العلمي بالجامعات الموجودة بالمملكة آنذاك، ليصر عليه والده الشيخ الجمري على إكمال تعليمه وليرسله للدراسة خارج البلاد رغم الظروف المادية التي كانت العائلة تمر بها.. ولهذا الموقف وغيره ثمارٌ كثيرة جناها أبناء سماحته العشرة، فقد كان مردود هذه التربية السليمة إيجابياً حتى أضحى جميع أبنائه جامعين ومثقفين ومشاركين فاعلين في نهضة الوطن وتنميته .


يستأنف ” صادق ” كلامه مؤكداً كذلك على أن الشعبية الواسعة التي تمتع بها الشيخ الجمري جاءت من خلال تواصله وارتباطه الكبيرين بالمجتمع على اختلاف طبقاته ومشاربه وأنها ليست نابعة من مواقفه السياسية فقط .

ويسترسل حديثه بالانتقال لإحدى المواقف التي عايشها وتجلت بها بعض قيم والده الأصيلة، ففي أشد أوقات الأزمة التي مرت بها البلاد في التسعينات لم يترك شيخنا الجليل واجبه اتجاه أبناء بلده وإخوانه، فموقفه حيال دفن الشهيد “عبد الحميد” من قرية الدراز والذي كانت جثته في المقبرة ولم يجرأ أي من الرجال التوجه لتشييعه وحين أصر الشيخ على ابنه بأخذه للمقبرة للقيام بالواجب لبى له ذلك الطلب وأخذه هناك وفور وصوله أخذ الشيخ في التكبير وحشد الناس وحثهم على القيام بالواجب الذي يمليه عليهم دينهم ووطنيتهم، فتجمع الناس وخرج المئات مع الشيخ، ليجسد بهذا المشهد الإنساني أسمى درجات الوفاء والتضحية والإخلاص لشعبه وأمته .


وينتقل بنا “صادق” بعد ذلك لمشهدٍ آخر عايشه بكل تفاصيله الدقيقة والمؤلمة، فأثناء الثمانينات من القرن الماضي وكما يعلم الجميع أن الشيخ الجمري كان يعمل قاضياً في المحكمة الجعفرية، في حين كان الوضع الداخلي متوتراً .. بينما كان المتظاهرون دائماً ما يوصمونه بالعمالة والتهاون واللهث وراء المصلحة الشخصية الأمر الذي كان يدعو الشيخ للبكاء على حال هؤلاء … لأنه وللأسف لم يفقهوا حقيقة الأمر وقدر هذا الرجل المعطاء الذي لم ينظر يوماً لشخصه بل طالما كان بصره وبصيرته مكرسةً لخدمة غيره، مكرراً كما أسلفنا سابقاً أن عمل الشيخ عبد الأمير في القضاء كان بطلبٍ وإصرار من قبل المراجع العظام في النجف الأشرف، وهذا ما جهل الكثرون حتى وقعوا في الخطأ فوصموه بالخيانة ! ..


ويستذكر “صادق” الماضي ليكشف لنا عن موقفٍ آخر كان بينهما، فالجدير بالذكر أنه كان ولا يزال يعمل في إدارة أموال القاصرين، وطالما جاءته عروض عملٍ أفضل بمردود مالي أكبر خصوصاً وأنه يحمل شهادة بكالوريوس في إدارة الأعمال من لندن، ولكن كلما أراد ترك عمله يأمره الشيخ بعدم تركه ويدعوه لمواصلة طريقه في خدمة القاصرين ومراعاة أمواله خوفاً منه أي أن يأتي غير الأمين مكانه ولا يكون أهلاً للثقة والأمانة .


ولابد لنا أن نقف وقفة وفاءٍ لرجل الوفاء ولا ننسى أبدا أن الشيخ الجمري هو رجل مبادرات السلام والتلاحم الوطني الأول، فبعد عصر الانفتاح والميثاق وحرية الرأي والتعبير والمشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك كانت له مواقف ودعوات كثيرة من زيارته لجمعية الإصلاح ومجالس الوجهاء من الطائفتين كل هذه وغيرها تشهد على أن هذا الرجل ابن أوال الوفي في زمنٍ غاب فيه الوفاء .