قصة حياتي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأكمل التسليمات على محمدٍ وآله الطاهرين، وبعد:

فحياة كلِّ إنسان مليئة بالتجارب والعظات والعبر، وجدي بكلِّ إنسان أن يستفيد من تجاربه، ويأخذ عبراً ودروساً من ماضيه يستفيد منها في حاضره ومستقبله. لذلك ومن هذا المنطلق رأيتُ أن أُدوِّن في هذه الأوراق ما أذكره وأستحضره من فصول حياتي، وماعشته من أوضاع وحالات متفقة ومتناقضة،ومن الله سبحانه أستمدّ الصواب والسداد والتوفيق.

قصة حياتي

القسم الأول

النسب:

والدي هو منصور بن الحاج محمد بن عبد الرسول  بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان الجمري البحراني، وتعرف أسرتنا بآل الشيخ سليمان، وبآل محمد. وبلحاظ انشطار الأسرة إلى شطرين من ولدي إبراهيم بن مكي المذكور وهما حسين المذكور وأخوه.

عرف شطر منها بآل عبد الرسول، والشطر الآخر بآل إبراهيم.

وهذا التسلسل النّسبي تلقّيته وتلقّاه غيري من أبناء الأسرة من العم الخطيب الجليل المغفور له ملا عطية بن علي الجمري باعتباره أبرز شيوخ الأسرة،وهو بدوره تلقّى هذا التسلسل النّسبي من كبار الأسرة الذين أدركهم. ولدينا شجرة الأسرة كتبت بقلمه رحمه الله تعالى، وقد قدّمتُ لها بمقدمة تتحدث عن موقف الإسلام من النسب وفوائد معرفته، وأضفتُ إليها من لم يُدوّنهم من أفراد الأسرة أما لغفلةٍ منه، أو لأنّه توفي قبل ولادتهم، وقد قام بطبعها طبعاً أنيقاً معتبراً ابن العم الحاج محمد بن ملا جعفر بن محمد بن محسن بن عبد الرسول حفظه الله تعالى.

مولدي ونشأتي

ولدتُ  في القرية المعروفة بـ{ بني جمرة} من قرى البحرين، وهي قرية آبائي وأجدادي، وفي الأصل هذا الإسم{{ بني جمرة}} يعني قبيلة تنحدر من قبيلة {مضر} في قول، وابن قبيلة{ نمير} في قول آخر، وكلا القولين يذكرهما صاحب كتاب:{ سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب}، ثم صار يطلق الإسم على المحلّة التي تسكنها هذه القبيلة.

وكانت الولادة- حسب إفادة الوالدة طيبة بنت حسن سلمان طيَّب الله ثراها- قبل الفجر بساعة تقريباً في ليلة الجمعة 28 ذي الحجة سنة 1356 للهجرة النبوية، 1937م، وقد نظمتُ هذا التاريخ في أبيات من الشعر بعد أن صرتُ أنظم الشعر تحت عنونا{ مولدي}، وهي كالتالي:

كان قبل العاشر صاح بيومين كذا كان قولُ أُمّي مفيدا
قبل الفجر لليلةٍ كانت  الجمعة -مرحى- بساعةٍ تحديدا
عامَ ستٍّ في بيئة عاشت الدين للعترة الولاءَ الشَّديدا
بعد ألف كذا ثلاث مئينٍ في الحساب الهجريّ خذه أكيدا
غمر الأسرة السُّرورُ وعاشت لقدومي- يا صاح- يوماً سعيدا
هنَّئوا بي أبي وفاهو بقولٍ معلنٍ للتاريخ: { خذه وليدا}

نشأتُ وتربَّيتُ في القرية المذكورة في كنف والدي المقدّس التقي العارف منصور الحاج محمد الجمري طيّب الله ثراه، وقد بذل قصارى جهده في تربيتي، وأدخلني إلى مدرسة البديع الإبتدائية للبنين، وكان كثيراً ما يصحبني معه إلى المجالس التي يذهب إليها، وإلى السوق أحياناً،حينما يذهب لقضاء شئونه وشراء حاجياته. صار قدس سره يعلّمني القرآن بعد إكمال السادسة من عمري،حتى نهاية الجزء التاسع، وفهمتُ باقي الأجزاء بلا معلِّم وفي هذه السن علّمني الوضوء والصلاة. درست في مدارس البحرين ولم أًكمل مراحل الدارسة، وتعلّقت نفسي منذ صغري ومنذ دخولي الإبتدائية بالمنبر الحسني، فكنت –في سن مبكرة-أقرء مقدماً للخطيب ملا جاسم محمد حسن نجم الجمري صاحب ديوان: ((شعار الحزين)) بأجزائه الثلاثة وهو في رثاء الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام باللسان الشعبي.

 

فكـرة عـامـة عن الوالـد رحمه الله تعالى

يحسن بمناسبة ذكر الوالد المقدس أن أعطى فكرة عامّة عنه طاب ثراه:

كان رحمه الله قوي الإيمان، وعى جانب كبير من الورع والتقوى، وكثير العبادة، لا يترك صلاة الليل وسائر المستّحبات، وكان يأمرني بالإتيان بالنوافل بعد تسليمي إياها. وكان كريماً، يجود بما في يده، ألذّ شيء عنده، وأفضل شيء يؤتاه أن يأتيه ضيف، أو يجد غريباً يضيّفه، وذلك رغم فقره وقلّة ذات يده، ورغم صعوبة الوقت. وكان قدس سره- كثير القضاء لحوائج الناس، لا يحسب لراحته حساباً في هذا السبيل، فكان يقوم بوظائف دينية ملحوظة من الجواب على المسائل الشرعية، حيث كان مثقفاً في دينه، كثير المجالسة للعلماء والتفقّه عليهم فيأتيه أهل المسائل من أبناء القرية ويجيبهم عليها. كما كان نحوياً أديباً، قرأ كتاب: ((شرح خالد على متن الآجرومية)) على المرحوم سماحة العلامة الشيخ محسن الشيخ عبد الله العرب الجمري طاب ثراه كما حدثني بذلك أخي الأكبر الحاج علي بن منصور الجمري، وكان له ذوق شعري وكثر الاستشهاد بالشعر العربي. ومن قيامه الصلاة على الموتى-في القرية وبعض القرى المجاورة-وتلقينهم، والكتابة على الأكفان، وكتابة إسناد البيع والشراء والهبات والوصايا. وقلمه جميل جداً.

وكان رحمه الله قوي البنية جلداً يتحمل الميثاق، أذكر أنه في شهر رمضان لا يقوم من العمل-وهو النسيج وهي المهنة العامة للقرية في وقته-إلا للصلاة فهو يواصل عمله من الصباح حتى المساء.

وكان في قراءته للمنتخب للشيخ فخر الدين الطريحي قدس سره، أو الفوادح للشيخ حسين بن الشيخ محمد آل عصفور طاب ثراه، وهما ما اعتيد قراءته في مجالس التعزية الحسينية قبل صعود الخطيب المنبر، وأكثر من ذلك قراءته لمقتل الإمام الحسين في كتاب: ((أبي مخنف لوط ابن يحي الأزدي رحمه الله تعالى، ولا يزال الجمرّيون الذين عايشوه وعاصروه أو أدركوه يتحدثون عن قراءته لمقتل الحسين عليه السلام وما يحدثه من التأثير العظيم في المستمعين حينما يقرؤه. وكان وصولاً للرحم يصل من قطعه ويحسن إلى من أساء إليه.

وكان-جزاه الله عني وعن أخوتي وأخواتي خير جزاء المحسنين-كثير الحب لي من بين أولاده وهم أشقائي علي ومحمد وزهراء ونعيمة. وكان يدعو لهم ولي بالتوفيق كثيراً. وأذكر-وأنا صغير-أني انتبهت عليه ليلة وهو يصلي نوافل الليل، وقد اشتغل بالدعاء بعد من إحدى النوافل، ورأيت أصبعه السبابة تشير إليّ وهو في حالة الدعاء. وكان قدس سره يملؤ نفسي معنوية بكلماته التي كان يخاطب بها والدتي رحمها الله تعالى، ومنها قوله: إن ابنك هذا له مستقبل كبير. وعندما أكتب شيئاً بسيطاً ويراه يقول لها: تعالى انظري ماذا كتب ابنك. وكنت وأختي نعيمة التي أكبرها بسنتين تقريباً ننام في نفس الحجرة التي تخص الوالد والوالدة وكنت أنتبه بعض الليالي على بكائه رحمه الله وهو يصلي صلاة الليل ويتهجّد. وقد تفاءل لي بالخير وفرح كثيراً حينما رآني قد نظمت قطعة شعرية شعبية في الإمام الحسن ابن علي عليهما السلام وكنت في سن مبكرة[1].

كانت وفاته رحمه الله في ليلة السبت الساعة السابعة غروبي 27/ربيع الأول1367هـ على أثر حمّى وضيق في التنفس، وكان الوقت شتاءاً وبارداً جداً، فأصيب نتيجة ممارسته لعمل النسيج في محل العمل المكشوف والكائن في مكان مرتفع، محلّ القسم الشمالي من بيتنا القديم، أصيب ببرد كثير، وقد ألزمه المرض الفراش خمسة أيام، ولم يعالج إلا بمعالجات بسيطة يساعد على ذلك عدم مراجعة المستشفى آنذاك كانت ليست بالسّهولة المطلوبة، وتوفي إلى أثر مرضه رحمه الله، وما انفك في مرضه وحتى في حال احتضاره يقرأ مصيبة الحسين (ع)، ويطلب قبل احتضاره أن تُقرأ له مصائب أهل البيت (ع)، وكان تشييعه تشييعاً ملحوظاً، وقد أحدثت وفاته أثراً غير قليل على القرية والمنطقة.

وكان عمره يوم وفاته 76 سنة، وقد شُيع إلى مثواه الأخير في الساعة الثالثة والنصف غروبي نهار الليلة التي توفي فيها، وقد شُيِّع بموكب كبير وجمهور غفير، هو جميع أبناء القرية والكثير من أبناء المنطقة. وكان عمري يوم وفاته عشر سنين وقد يزيد قليلاً. وبعد أن قلت الشعر الفصيح نظمت الأبيات الثلاثة التالية مؤرخاً عام وفاته بالحساب الأبجدي:

في عام موت والدي                      ما أعظم المصابا

إليه ضُمَّ واحداً                              وسائل الأحبابا

في لوعة مؤرخاً:                                    ((أبدرُنا قد غابا)


[1]هي أول شعر أنظمه، وقد واصلت بعد ذلك باللغة الدراجة في مراثي أهل البيت عليهم السلام، واستمر الأمر كذلك أنظم بعض القطع الشعرية وقت الحاجة حيث تشرّفي بالخطابة الحسينية، وأصبح عندي في هذا المجال ما يكوّن ديواناً، إلا إنني أهملته مدة طويلة، فلم أقم بجمعه لكثرة الأعمال، ولأن هذا المجال مغطى بالكثير من الدواوين الشعرية، وعلى رأسها: ((الجمرات الودية)) لشاعر أهل البيت الملهم الخطيب الجليل ملا عطية بن علي الجمري طاب ثراه. وأخيراً قمت بجمع ما نظمته من القطع الشعرية، طلباً للثواب، وكخدمة وفقت لها فلا ينبغي أن أهملها، جمعته تحت اسم: ((أنغام الولاء))، وهو من مؤلفاتي المخطوطة، أسال الله أن يوفقني لنشرها.

ماذا بعد وفاة الوالد ؟

بعد وفاته طيّب الله ثراه كان يقوم بشئون البيت وتكاليف العائلة أخي الأكبر ((علي)) وكانت العائلة تتألف مني ومن والدتي وأخي محمد وأختي نعيمة، أما أُختي زهراء فكانت متزوجة من ابن عمها الحاج إبراهيم بن الحاج سلمان بن عبد الرسول الجمري. وكنت قد استفدت منبرياً استفاداتٍ كثيرة من ابن العم الخطيب الكبير ملا عطية الجمري وابنه الخطيب الجليل ملا يوسف الجمري طاب ثراهما، وكنت في مثل هذا الوقت أتصنّع عند الخطيب الملا جاسم محمد حسن الجمري، وهو من خطباء قريتنا، ومن المؤمنين الأتقياء، وله شعر باللسانين: الفصيح والدارج، وشعره متوسّط مقبول، وقد استفدت منه استفادات منبرية، واستفدت من إيمانه وسلوكه وأدعيته وصلاته وتقواه، جزى الله الجميع عني خير جزاء المحسنين. وبعد وفاة والدي رحمه الله، بفترة من الوقت جاء الملا عبد الله بن محمد البلادي المكنى بـ ((أبو طاهر)) وطلب من أهلي أن أكون معه قائداً له لأنّه بصير، ومطالعاً في الكتب، ومتصنّعاً معه، فوافقوا، وبقيت معه سنةً على الأقل كنت فيها موضع عنايته وعناية عارفيه، وكنت موفقاً في قراءتي معه، وكان يعتمد في تنّقله من بلد لآخر وإلى مجالسه على المشي، ونادراً ما كان ينتظر أو يستأجر سيارة، نعم يلتزم بالسيارة في مناسبة الوفيات حيث تتعدد عنده المجالس، وكان يدفع لي شهرياً هدية قدرها خمسة وعشرون روبية، ويسلمّها إلى أخي الأكبر ((علي)) يستعين بها على الصرف على العيال. وبعد سنة أو أكثر بقليل انفصلت عنه، وصرت – وأنا في سنٌ مبكّرة – اقرأ مستقلاً شهر رمضان وعاشوراء والوفيات، وعادات. وقد وجدت تجاوباً من الناس شجّعني على الاستمرار.

من معايشاتي في الفترة الأولى من التكليف الشرعي:

في الفترة الأولى من بلوغي سنَّ التكليف أدركت وعايشت – بدون قدرة على التّحديد للأمور وفقهها وإدراك تفاصيلها – الفتنة بين الشيعة والسنة التي أشعلها وغذّاها الاستعمار البريطاني الممثل في مستشار حكومة البحرين ((بلكريف))، الذي كان مهيمناً ومسيطراً على جميع شئون البلد، وكانت الفتن متناكفة، وهي في الحقيقة امتداد لفتن عاشها من قبلنا من الآباء والأجداد، وهي الوسيلة المفضلة للاستعمار من أجل تغلغله وبسط نفوذه أكثر، وجعل حكومة البحرين آل خليفة مضطّرين للإجابة له فيما يريد. وهنا كانت حوادث وتعدّيات من جانب السنة على الشيعة الذين هم اخوة في هذا الوطن، وقد بدأت هذه اللعنة والفتنة من حادث العزاء، فقد كان حصل تحرّش في بعض مواكب العزاء وارجّح انه موكب مأتم بن سلوم، حيث كان بعض السنة وبعض آل خليفة يحضرون في بعض المواقع التي تمّر بها المواكب بهيئة المتفرجين، فحدث شجار بين الطرفين، وعلى هذا الأساس امتّدت الأيدي إلى المعزين، وكان الأمر قد أُعدّ له مسبقاً يجمع أخشاب وكميات من القناني الفارغة في الحديقة المعروفة بالباخشة والمقاربة لمدرسة الزهراء للبنات، وسلطت الشرطة بالأخشاب الطويلة والهراوات على المعزين العزّل وحدثت إصابات وقد بذل المعزون العزّل جهدهم في الدفاع عن أنفسهم فحصل جرحى بل وبعض القتلى من الطرف المقابل، بل وسمع إطلاق بعض الرصاص من بعض العناصر الخليفية الحاضرة… وأفرز هذا ان تتشكل هيئة من الشيعة من كبارهم وأهل النفوذ فيهم للدفاع عن الشيعة والاحتجاج أمام المعتمد السياسي البريطاني في البحرين… وامتدت الأحداث الأليمة وكان منها هجوم عدد كبير من أبناء المحرق بتحريض من المتلسطين وتحت إشرافهم على أهل عراد وكانت المواجهة من المهاجمين عنيفة، وكانت فتنة سترة بين العمال السنة والشيعة في موقع العمل المسمّى: ادرام ايلثت، وحصل الضرب والجرح من كل من الطرفين للآخر، واعتقل عدد اتهموا بإحداث الفتنة من شخصيات السنة والشيعة، وكانت النتيجة سيئة إذ حكمت المحكمة العناصر الشيعية كل فرد بالسجن ثلاث سنين وستة أشهر، بينما حكمت على العناصر السنيّة التي حوكمت تغطيةً كل فرد بثلاثة أشهر ونصف – إذا لم تخني الذاكرة في هذا الأمر من الحكمين وأُقلّل، وهذا ما سبب إضراباً من جانب الشيعة، وكانت الأسواق: اللحمة، والخضرة، والسمك، وكل المواد الغذائية الضرورية اليومية بيد الشيعة، إضافة إلى وجودهم المكثّف في الحاجات الأخرى، فإذا أضرب الشيعة شُلّت البلد، وتعطلت الأمور… وهكذا توالت الأحداث وعمت الفوضى بتدبير الإنكليز، ولم يكن للحكومة المحلية موقف حيكم يعالج الأمور عِلاجاً صحيحاً وإنما تزيدها تعقيداً… وكان المعتمدون من شخصيات الشيعة يتظلمون ويفزعون إلى المعتمد السياسي طالبين منه إنصاف الشيعة ورفع الظلامة عنهم، بكفّ الحكومة المحلية ومن يدور في فلكهم من السنة عنهم، وهنا طلب المعتمد السياسي من الشخصيات الشيعية برهانا على أنهم يمثلون الطائفة الشيعية، فبعث هؤلاء سيارات الباص إلى القرى طالبين من الناس الحضور المكثف في مسجد مؤمن بالمنامة، وفي يوم الخميس صارت السيارات تنقل المواطنين الشيعة من قراهم إلى الموقع المذكور واجتمع ما يقارب الأربعين ألف نسمة من الشباب والشيوخ والصبيان، وكانوا في انتظار أوامر الشخصيات التي كانت بدورها مشغولة بمقابلة المعتمد السياسي، فحدث أن السلطة اعتقلت شخصية تجارية معروفة من الدراز وهو في طريقه إلى مسجد مؤمن وهو الحاج عبد المجيد الحاج حسين الشهابي الذي اعتقل من سيارة الباص إلى القلعة، وعندما وصل الخبر إلى الجمهور في المسجد تحرك عدد كبير بدون أمر الزعماء يحملون العلم الأبيض وهو علم الحركة إشارة إلى سلميتها ومضوا إلى القلعة من أجل تخليص الرجل المعتقل، فأنذرهم من هناك من عسكريين ومسئولين بأمرهم بالتفرق، ثم فتحوا عليهم الماء الحار، فلم يتفرقوا فأطلقوا النيران عليهم من رشاشات وضعت فوق برج القلعة ووجهوا الرّصاص بكثافة هائلة إليهم وإلى المجتمعين في المسجد، وكثرت الجرحى واستشهد أربعة من الواصلين إلى القلعة وكلهم من الشباب أحدهم من المنامة والثاني من المالكية والثالث من سترة والرابع من مقابه، وفر الناس يطلبون الملجأ من الرصاص الذي ظل فترة طويلة يُصبُّ عليهم بلا رحمة ويلاحقهم، وفيما يأتي صور الشهداء الأربعة، وأسماؤهم وأسماء بلدانهم وأعمارهم، وانا لله وانا إليه راجعون. واذكر أن الخطيب محمد علي الناصري رحمه الله نظم قصيدة بمناسبة حادث القلعة قرأها وسمعتها منه في غير محفل، والفقرة الأولى من مطلعها:

يوم الخميس ولست منه بناسي

كما أن العم الخطيب ملا عطية بن علي الجمري ألقى قصيدة رائعة في أربعينية الشهداء في مسجد مؤمن إضافة إلى كلمات وقصائد الآخرين، ومطلع قصيدة الملا عطية قدس سره:

عِبرةُ الحرّ صَرعةُ الشهداء               كُتبت نُصبَ عينيه بالدماء

وأذكر أن ثوب أحد الشهداء وقد ضرّجت بالدماء قد وضعت علماً على باب المسجد، وكان حفل الأربعين حفلاً جماهيرياً عظيماً.

 

 

نظمي للشعر الفصيح العمودي

 

نظمي للشعر الفصيح بدأ وأنا في سنٌ مبكرة، وكل شعري عمودي فراهيدي ما عدى قصيدة واحدة نظمتها في سجني الثاني وهي وطنية ومن القسم الحر وقد صودرت مع القصائد الأخرى من قبل المخابرات. وقد نظمت أول قصيدةٍ لي وأنا ابن الثامنة عشر تقريباً. وقد شجعني على الاستمرار في نظم الفصيح المرحوم حاج جاسم بن محمد المحل من المنامة الذي استفدت منه الكثير في هذا الباب، وكان يوجهني أحياناً بتوجيهاتٍ منبرية وكان يهذب لي بعض القصائد في بداية نظمي، فله علي فصلٌ كثيرٌ، فجزاه الله خير الجزاء وتغمده برحمته واسكنه فسيح جناته. وأول قصيدة نظمتها كانت في الإحساء – الهفوف – في مدح صديقٍ لي اسمه يوسف أحمد الغزال، وقد هذبها لي المرحوم الخطيب الفاضل الشاعر الشيخ كاظم بن مطر – رحمه الله – حيث أني سافرت إلى الإحساء في أوائل عهدي الخطابي مستقلاً كما سيأتي هذا، ومطلع القصيدة:

مررت بمن في حسنها أنا معجب  حكى قدها غصنا به الريح تلعب

وقد ذكرت منها عدداً من الأبيات التي تصلح للنشر في ديواني: ((عصارة قلب)) الجزء الأول.

ممارستي لأعمال أخرى إلى جانب الخطابة فترةً من الزمن

 

كنت بعد انفصالي عن الملا عبد الله البلادي المذكور مستمراً في قرائتي الحسينية، إلا أن بعض الشباب وغيرهم غفر الله لهم أخذوا يزهدونني في الاستمرار في القراءة، ويقولون إن القراءة ستموت وتنتهي ولا ينبغي أن تربط مستقبلك بها، فتأثرت بهذه اللغة وهذا التفكير الضيق، واتجهت إلى العمل إضافةً إلى عملي في القراءة وعدم رفع يدي عنها، فعملت شهراً واحداً أجيراً عند الحاج عبد الله الخواجة من المنامة وكان عملي يتمثل في استلام الأجور يومياً من باعة السمك في سوق السمك حيث كان الرجل المذكور قد أستأجر سوق السمك من الحكومة. ثم استقلت من هذا العمل إحساساً مني باسثتقال الباعة لمن يتقاضى منهم الأجور. وبعده عملت أجيراً شهراً واحداً عند التاجر السيد هاشم النتاك من المنامة في دكان يديره شخص اسمه الحاج إبراهيم بن حسن من المنامة لعلّه شريك للسيد المذكور في الدكان أو يعمل له. وبعد شهر أو أكثر بقليل وجهني السيد المذكور إلى التاجر المرحوم الملا عبد الحسين حميدان – رحمه الله – ، حيث رأى أنه لا يمكن الاعتماد علي في الدكان لعدم ضبطي لأسعار البضائع الكثيرة إذ كان حسب ما فهمت في تصورهم أن يسندوا إدارة الدكان إلي، ولعله مؤقتاً على أساس أن الحاج إبراهيم سيسافر إلى خارج البحرين فترة ما. وعملت عند الملا عبد الحسين المذكور أجيراً لمدة سنةٍ تقريباً، وكان العمل الذي أقوم به هو أني أجلس معه ومعاونته في المكتب فحينما يبيعوا بضاعةً – وكان يبيع بالجملة المواد الغذائية اربعة عشر مخزناً وأُمكن الحمالين من حمل البضاعة والإحصاء عليهم وقد أكرمني الرجل المذكور وقدم لي بعض الأرشادات، ووجهني إلى أن أدرس اللغة الإنجليزية وقواعد اللغة العربية في المدرسة الأهلية للأستاذ عبد الرسول التاجر، وهو الذب يدفع أجرة التدريس وقد واصلت ذلك فترةً يسيرةً لا تتجاوز الشهرين، وكان يحسب لي شهرياً 180 روبية فقط، وكان يجعلها عنده، وأخيراً دفع شيكاً بالمبلغ كله. وكانت إقامتي طيلة المدة عندهم في المنامة لا آتي إلى بيتنا في بني جمرة إلا ليلة الجمعة فقط. وانفصلت عنه على أساس سوء تفاهمٍ حدث بيني وبين أحد ابناء أخيه – وهو الأصغر فيهم – على أساس قضيةٍ دينيةٍ كان كثير التساهل بها فأهانني لما كلمته وألححت عليه، ولم تحتمل ذلك نفسي فاستقلت من العمل واستلمت رواتبي التي كان الملا عبد الحسين يحفظها لي كأمانة. واستأجرت دكاناً قرب عمارة القصاب أبيع فيها معلباتٍ وبعض المواد البيتية فلم أوفق – والحمد لله – وتركته بعد أقل من سنة، واستأجرت مكاناً آخر عملت فيه صندقةً، وهو أسفل درج من أدراج سوق الخضرة القديمة وصرت أبيع ملابس. وبقيت عدة شهورٍ فيه، إلا أنني لم أوفق كذلك – والحمد لله. كل هذا وأنا لا زلت أقرأ تعزيةً في شهري محرم وصفر ورمضان وبعض المناسبات. ثم تركت العمل نهائياً واعتمدت على قراءة التعزية وحدها واتجهت إليها برغبةٍ وجدٍ، لاسيما وأنني فشلت في غيرها، واتضح لي خطأ أولئك الأشخاص المزهَّدين فيها. وقد لاقيت توفيقاً في القراءة، هذا وقد سافرت إلى الاحساء – الهفوف وأنا لازلت أعمل في الصّندقة وأبيع بعض الكماليات كما ذكرت آنفا، وقد وفقت في قرائتي هناك توفيقاً جميلاً، وبقيت شهراً كاملاً اقرأ ليلاً وصباحاً وكان نزولي على فراش الملا عبد الله البحراني وأخيه الحاج حجي البحراني، ورأيت منهما العناية والكرم والرعاية جزاهما الله وأهلهما عني خير الجزاء، وكان هذا قبل زواجي. وعدت إلى البحرين، وتزوجّت، وبعد زواجي أنهيت عملي في السوق، واعتمدت على قراءة التّعزية كلّياً كما ذكرت آنفاً. وبعد زاوجي سافرت إلى الإحساء بطلب من الاخوة هناك مرّتين وتوفقت كثيراً، وقرأت بالإضافة إلى العاصمة الهفوف في عدد من القرى، واستؤجرت في اولى السفرتين لقراءة محرم في قرية التويثير اربعة مجالس، وكنت طيلة الفترة في التويثير على فراش العالم التقي الجليل أبي حافظ سيد عبد الله الأحمد قدس الله نفسه، الذي وجدت منه الرعاية الكاملة والعطف والعناية، ورأيت فيه الشخص الكريم والمرّبي الفاضل جزاه الله عني خير جزاء المحسنين، وأهل التويثير أناس طيبّون كرماء، وذوو أخلاق عالية ولا تملّ من مجالستهم، وقد نظمت قصيدة في مدحهم ومدح عالمهم الجليل السيد عبد الله الأحمد المذكور آنفا وألقيتها أمام جمهور منهم، والقصيدة من أوائل نظمي، اذكر منها البيتين التاليين:

سرت بي مطايا الجبِّ يدفعها القَدّر                   فالفت مناها بالتويثير من هجر

أناخت بامجاد سموا بمكارم                                      وفي ظلهم ألفى سخا يعرُبٍ مفر

وفي الهفوف كان لي عدد من المعارف من الشباب المحترمين، وكانت لي صداقة مع الأخ الكريم الحاج يوسف احمد الغزال، وقد مدحته بالقصيدة التالية التي ذكرت مطلعها فينا تقدم:

وبعد رفيقي – وسيأتي الحديث عنه مفصَّلاً سافرت إلى قطر عم طريق الخطابة الحسينية ولاقيت في بداية سفري مشقة. وقد نزلت على فراش المرحوم الحاج علي الماجد، وهو من تجار الشقيقة قطر، ومن قسم البحارنة، وهو ذو خلق حميد، ومجلسه مفتوح للقاصدين، وقد وُفّقت في قرائتي، وأكرمني واحترمني الحاج علي المذكور، واستؤجرتُ للقراءة في شهر رمضان، حيث كان سفري إلى قطر في جمادى الأولى، ووُفّقت في القراءة والحمد لله، وكان لي في قطر معارف وبعض الأصدقاء، وكانت لي سفرة أخرى إلى قطر بعد حلّ المجلس الوطني، حيثُ طُلبت للقراءة في العشرة الأولى من المحرم، فقرأت ثلاث مجالس، وكان التوفيق حسنناً.

سبب اشتهاري وتوفيقي خطابياً

 

وهناك أسباب هيئها الله تعالى لأن اشتهر وأُوفق منبرياً رغم أني قرأت مستقلاً في سن مبكرة وهي:

1)  كوني اعتمدت – بعد الاعتماد على الله – على نفسي، وذلك أني صرت اشعر بضياع نظراً ليتمي حيث توفي والدي وأنا ابن عشر سنين، وعدم تهيُّي ملتفتٍ الي كما ينبغي.

2)   ما طبعني الله عليه وغرزه في نفسي من الطموح رغم ضعفي وقلة حيلتي وعدم توفر الوسائل المساعدة على تحقيق طموحاتي الكبار.

3)   ما وفقت له من الاستفادات المنبرية من الخطيبين الجليلين عمّي ملا عطية بن علي الجمري وابنه ملا يوسف، بحيث كنت التقط شواهد ونكات وأحيانا مواضيع بكاملها، وأمارس التدوين لما استفدته منهما منبرياً وحتى مجالسةً، وقد اسهم ما استفدته منها – وهو فوق مستواي حينما بدأت حياتي المنبرية – في الفات الأنظار إليّ والرغبة لقراءتي.

)   ما وفقت له من اقتناء الكتب الحديثة والاستفادة الملحوظة من الأقلام الناضجة، بحيث كان ما اقرؤه يلفت النظر ويعجب المستمعين لاسيما المتعلمين، فقد استفدت من كتب آية الله الشيخ محمد أمين زين رحمه الله، ككتاب الاسلام، وكتاب: من اشعة القرآن، وكتب الأسناد ابو الأعلى المودودي، ككتاب: المال وتداول الثروة في الإسلام. وكتب الأسناد عباس العقاد، ككتاب: عبقرية محمد (ص). وكتب غير هؤلاء مما كان متوفراً في مبادئ قرائتي… ةوولقد كنت أتطرق – وأنا في تلك الفترة إلى مواضيع ما كانت يُتطرق آنذاك إليها في المنابر البحرانية، كموضوع الحرية، وموضوع الاقتصاد، وموضوع الرق وموقف الإسلام منه، وموضوع الوحدة، وهلمّ جّراً.

5) صحبتي للملا عبد الله بن محمد – أبو طاهر – البلادي قائداً أو مطالعاً له الكتب وقارئ مقدمة، وهو شخص معروف وكثير القراءة آنذاك، صحبته – كما ذكرت في أوئل الكتاب – مدة سنة على الأقل، فسبّب هذا أن أًعرف على مستوى الكثير من الناس.

6) قرائتي في مأتم مدن في المنامة صباحاً كل يوم عدى عاشوراء لمدة تزيد على ثلاث سنين، وسبب ذلك أن الخطيب الدائم للمأتم في صباح كل يوم – عدى عاشوراء – السيد محمد صالح السيد عدنان. سافر في بعض السنين مرتين إلى الإحساء بالمملكة العربية السعودية للقراءة الأولى ثلاثة اشهر والثانية اقل من ذلك واستنابني في القراءة، وصلت على موفقية وإقبال المستمعين. وعندما حدث بين أهل المأتم وبين السيد سوء تفاهم أقالوه واستاجروني – بعد ان حاولوا مع سماحة الشيخ احمد الشيخ خلف العصفور ليقرأ مكانه، فقرأ أسبوعاً واحداً ثم اعتذر عنهم، فقرأت عندهم مدة ثلاث سنين متواصلة عدى عشرة عاشوراء وبعد هذه قدمت استقالتي لأهل المأتم وهاجرت إلى النجف الأشرف للدراسة العلميّة.

 

 

حياتي الزوجية

وقبل أن اترك العمل في السوق، وفي آخر المدة الذي كان عندي المحل الذي أنشأته في أسفل درج سوق الخضرة – كما ذكرت آنفا هذا – كان زواجي من ابنة العم: زهراء ملا يوسف ملا عطية الجمري، وكانت قد سماها لي زوجة والدها طيب الله ثراه، وكنت حينما سماها لي في الرابعة عشرة من العمر وهي في العاشرة من العمر، وكنت حين الزواج قد أكملت العشرين على الأرجح، وهي قد أكملت السادسة عشرة، وكنت حين إرادة الزواج غير مقتدر على الزواج، وأخي الأكبر المسئول عن الإنفاق على العائلة فقير لا قدرة له على القيام بهذه المهمة. وكان الذي دفعنا إلى الزواج في هذا الظرف أن الفتاة المسماة لي قد تقدم إلى خطبتها أكثر من خاطب، مع كونها قد أكملت السادسة عشرة من عمرها، ومن الخاطبين بعض أبناء العم، وبعض أبناء خالها،  وهنا بعث المرحوم جدها الخطيب الملا عطية بعض أبناء العم وهو: عبد الله بن الحاج محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى إلىأخي الأكبر ((علي)) طالباً منه القيام بتزويجي على أساس ان الفتاة قد صارت في مرحلة الزواج وإنها صارت تُخطَب، فجمعنا الصراف والمصرف بالدين من عدة أفراد، والبعض دفع إلينا مساعدة وتزوجت بها، وكان زواجنا مع زواج ابن الأخت محمد بن الحاج حسين بن علي بن عبد الرسول في ليلة واحدة، وزوجته هي: فاطمة ملا عطية الجمري، وتأريخ الزواج هو: 20/شهر رجب/1376هـ الموافق19/2/1957م، وكان العقد ليلة الزواج، والعاقد لكلٍ منا هو سماحة الشيخ عبد المحسن الحاج حسين الشهابي تغمده الله يرحمته. وصداق كلٍّ من زوجتي، وفاطمة ملا عطية الجمري هو ألف وخمسمائة روبية فقط أي: مائة وخمسون دينارا بحرانياً، وكله معجل، وفيما يلي صورة ورقة العقد صادرة من العاقد المذكور، ومصدقة من المحكمة الكبرى الشرعية – الدائرة الجعفرية.

 

 

 

فكرة عامة عن شريكة حياتي

 

لقد وجدتُ في هذه الزوجة الكريمة بغيتي وأُمنيتي خَلقاً وخُلُقاً وصدقاً ووفاءاً والتزاماً، ولقد وقفت معي موقف المؤازرة في كل ادوار حياتي، وقد شاء الله سبحانه لي معها حياة زوجية سعيدة جدّا، ولم اكن معها لأرى يوم بؤس أبدا في كل الأحوال والأطوار التي عشناها، وأنا اكتب هذا في اليوم الرابع من ذي القعدة سنة 1420هـ-10/فبراير/2001م.

وأرى من باب الوفاء لها أن اذكر بعض مواقفها كنموذج لمؤازرتها ووفائها وكفاءتها فأقول:

1)       بعد الزواج بفترة قصيرة، وحيث انها تجيد الخياطة، وإحساسا منها بحالتي المادية وتدنيها طلبت مني أن اشتري لها ماكنة خياطة، فاشتريتها بمأتي روبية حيث كان النقد آنذاك هو الروبية، ثم طلبت أن أأتي لها بطاقة قماش وصارت تفصل وتخيط اقمصة، وألبسة قصاراً ((هافات))، وتدفع الي الكمية التي تجهزها اذهب بها إلى السوق وادفعها إلى بعض الباعة يبيعها وله فائدة. فاستفدت من فكرتها وجهدها كثيرا جزاها الله خيراً.

2)       عندما أردتُ الهجرة إلى النجف الأشراف للدراسة عارضني أهلها، وبالذات جدها ابن العم الخطيب ملا عطية الجمري ووالدها الخطيب ملا يوسف الجمري طيب الله ثراهما خوفاً عليها بلحاظ أني فقير، وحدث بيني وبينهما تشنُّج وخلاف، واصررت على موقفي واصّرا على موقفهما، فحسمت هي الموقف بحزمها وايجابيتها واخلاصها حيث قال: لا تهتم أين ما تذهب أذهب معك، ما فلن تكت ضيّق الصدر. وهكذا كان هاجرتُ وهاجَرَت معي بطيب نفس.

3)      مرت بي حالة ضيق في بعض السنين في النجف الأشرف، وضاق صدري، حتى اني عرّضت نفسي للاستدانة من بعض المؤمنين فاعتذر، فلما رأت ما بي من ضيق الصدر قالت: خذ ذهبي وارهنه، واذا تمكنت من فكّه فكّه، ولا تهتم، قالت ذلك بصدق وايجابية، وعزمتُ علي أن أذهب الى السوق الكبير وارهن ذهبها عند بعض الصاغة، ولكن تصورتها كيف ستبقى-وهي شابة-عاطلة من ذهبها وزينتها، فانكسر خاطري لها، وتراجعت عن رهن ذهبها، وهنا فتح الله عليّ ويسَّر لي لمصرف بما يشبه المعجزة، حيث دخلت إلى مكتبي وفتحت بعض الكتب انظر فيه، وإذا بي نوطاً فئة العشرة دنانير عراقية، فأخذتني الرهبة هشة والعجب اذ لم اذكر انني وضعت في هذا الكتاب أوغيره مالاً، وليس هذا من عادتي، وليس هناك غيري يتصرّف في المكتبة أو يمارس استعمال الكتب فيها. وهذا القدر من المال هو الذي طلبت من ذلك المؤمن-غفر الله له-أن يقرضني إياه فأعتذر.

هذه نماذج من مؤازرتها ومواقفها. أما أخلاقها معي وصبرها وحبّها لي فذلك في اعلى المستويات، كما ان حبي لها يكاد يتجاوز الحدود الطبيعية، فحياتنا الزوجية سعيدة جدا، لله الحمد والمنة على حسن توفيقه، وبالنسبة لما يحدث من خلاف في الرأي حول بعض المسائل والأمور المعيشية والبيتية وبعض القضايا ما اسرع ان يزول لوجود التفاهم والحوار وعدم التعصب وبناء الامور على القناعة، واشهد الله اني استفيد من النقاش معها، ولقد كانت في النجف الأشراف يوم كنا هناك نقوم بكل لوازم البيت من حيث شراء الحاجات وترتيب المنزل وتربية الأولاد وسائر الشئون، وأنا كنت مشغولا بدراستي فقط. وكنت أسافر إلى البحرين كل عام مرة أو مرتين لقراءة شهر رمضان وعشرة عاشوراء واتركها غالبا في النجف مع الاولاد فتقوم بالرعاية وتدبير الأمور خير قيام. فكانت خير مؤازر ومعين.

ولقد كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام. اذكر في 6سبتمبر 1988 وقد جاء العقيد عادل فليفل مع عدد من ضباط الأمن لاعتقالي أنها وقفت بباب المنزل حائلة بين القوم وبيني لا تدع أحدا يدخل إلى المنزل وكأنها لبؤة أسد، وصارت تتكلم على أولئك بصوت، ومنطق شجاع ما كنت أتوقعه منها، ولو لم أتدخل في إقناعها-خشية أن يمسوها بسوء أو يغلطوا عليها-لما غيرت مكانها ولهجتها، ولما تمكنوا من اخذي. ولقد كانت ممسكة بالجواز وهم يريدون اخذه -أعني جوازي- ولو لم أتدخل في اقناعها لما أمكنهم استلامه، وكنت أنا الذي أخذته من يدها وسلّمته إليهم. واذكر من كلماتها في وجوههم بصوت عال – وهم يريدون دخول المنزل للتفتيش، اذكر قولها: لماذا تفتشون منزلنا؟! هل عندنا متفجرات أو قنابل، من أين تأتينا، من أي طريق، هل نزرعها زراعة فنحصل عليها!! ولقد حالت بقوة موقفها بينهم وبين الدخول إلى التفتيش. وعندما أرادوا أخذي لإركابي في السيارة قالت: لا أدعكم ابداً أن تأخذونه حتى أُخبر الناس، انكم ستأخذون رجلاً له ثقله الكبير ولستم تأخذون حيواناً، وابتدرت الى سماعة جامع الإمام زين العابدين عليه السلام المجاور للمنزل، وفتحتها وصرخت: أُخذ ابو جميل، جائوا لاعتقاله يا ناس، يا مؤمنين، فصار الناس يتواردون من كل جانب رجالا ونساءً وشباباً وشيوخاً، وكانت هي السبب في حصول المسيرة، او المظاهرة الصاخبة بسبب اعتقالي، واضطرارهم لإعادتي بعد ساعة وربع تقريباً. ولقد قلتُ في حقها من جملة قصيدة لي من قصائدي التي نظمتها في سجني الثاني، عدى قصيدتين خالصتين فيها إحداهما بالفصحى والأخرى باللغة الشعبية، قلت مخاطباً نفسي:

حبتك السماء بإنسانةٍ               حمدتَ ولازلتَ منها الشّيَم

مؤازرةٍ عبرَ كلّ الظروف               معاونةٍ، من عظيم القِسَم

ألستَ تخاطبها قائلاً                            -مقالة شخص بها قد جزم-:

خديجةُ لي انتِ أُمَّ الجميل          يجازيك خيراً اله النّعم

أنرت حياتي ملأت الضمير            كذا العينَ، سُلِّمت من كلّ ذم

ولقد كان موقفها وأنا في سجني سواءً الأول والثاني موقفاً رائعاً وفريدا، من حيث الصبر، والثبات، ورعاية العيال، والمطالبة بي، وتفقد أحوالي، والنشر والإعلام، فكانت بحق في الانتفاضة المباركة الشرعية عنصراً فعالاً.