“لا عيد والجمري بعيد” حياً؟

لماذا لا يزال شعار “لا عيد والجمري بعيد” حياً؟

التوعية- محمد نعمان

لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن ننفصل عن تاريخنا أو أن نعيش خارج ذاكرته، وعودتنا إلى الوراء قد تكون فرصة لنقفز قفزات إلى الأمام. في هذا التحقيق نعود إلى أيام عظيمة من ذاكرة مجتمعنا البحريني المهمة، فيما عرف بــ”فترة الأحداث” والتي استمرت من 1994 إلى 2001م، حيث ضمت بين طياتها الكثير من المواقف، إضافة إلى الكثير من الشجون والآلام، ألقت بظلالها على الكثير من جنبات حياتنا اليومية .

ولم يكن ليقتصر أثر وتأثير تلك المرحلة على الجزئيات السياسية والأمنية، بل إنه من الحتمي أن يتوسع ليشمل الجوانب الاجتماعية والدينية حتى! فيما يلي محاولة لتلمس ذلك الأثر والتأثير من خلال تسليط الضوء على أثر وتأثير “فترة الأحداث” على “مظاهر العيد” مثالا !

“لا عيد والجمري بعيد” .. في مجلس الجمري

ربما لأنه كان علينا أن ندخل البيوت من أبوابها، وربما لأننا على موعد مع الوفاء، وموعد مع الذكرى الغالية والملتقى العزيز بالأب العزيز ..فقد طرقنا منزل الشيخ الجمري شافاه الله من خلال لقاءنا مع نجله المهندس محمد جميل الجمري لنسأله عن العيد في مجلس الشيخ الجمري في فترة الأحداث؟ ووقع شعار “لا عيد والجمري بعيد” على الشيخ وعلى عائلته.

وقد ابتدأنا المهندس محمد جميل بتذكر سجايا الأب الغالي: “سماحة الشيخ الوالد أكثر ما يميزه هو ذلك القلب الرقيق والحنون على الفقراء والمظلومين وخاصة فئة الشباب منهم، فهو لا يستطيع الوقوف على قضية مظلوم إلا وتفاعل معها بشكل يلفت النظر ويشعر من يراه بهذا الشخص المليء بالجوانب الإنسانية.

دمعته سريعة وتأثره أسرع لمنظر أي إنسان يتعرض لظلم أو يكون في ورطة ويحتاج إلى من يقف إلى جانبه. وحينما يأتي العيد يتجسد في سلوكه بصورة جلية ذلك الخلق الرفيع والإحساس المرهف بالآخرين. فتراه يبادر إلى منازل الفقراء ليوزع زكاة الفطرة عليهم وكان يهتم بفعل ذلك بصورة شخصية، وهكذا سلوكه مع أي محتاج”.

ويواصل الجمري متحدثاً عن يوم العيد : “في يوم العيد تزحف الأعداد الكبيرة من الشباب المؤمن وسائر المؤمنين للائتمام به في صلاة العيد التي كان يقيمها في مسجد الإمام زين العابدين(ع)، ولا يسع المسجد بساحته جموع المصلين ويتم فرش الشارع المؤدي إلى المسجد, حيث ترى منظرا فريدا لا يتكرر في سائر أيام السنة”.

ويسرد محمد جميل برنامج الشيخ حيث يقوم الشيخ بعد ذلك بـ “الجلوس في مجلسه المبارك لاستقبال عموم الناس المهنئين بالعيد. فهو لا  يمكنه التخلي عن ذلك بسبب عشقه الغير محدود للاجتماع بالناس والتحدث إليهم. ورغم اهتمامه باستقبال الناس في مجلسه إلا أنه لا يترك أبداً زيارة العلماء وأرحامه وسائر المؤمنين في هذه المناسبة، فتراه يخصص بعضا من وقته في مساء اليوم الأول للعيد وبعضا من اليوم الثاني والثالث لزيارة بعض العلماء والأهل والمؤمنين”.

وحول فترة سجن سماحته: “أثناء فترة سجنه كان الناس لا ينسونه أبدا وذلك من خلال ترتيب مظاهرة حاشدة من المؤمنين من مختلف مناطق البحرين حيث كانوا بعد صلاة العيد يتوافدون بأعداد غفيرة ويتجمعون أمام منزله ويبدؤون بالشعارات والهتافات التي تكسر الصمت وتدوي في أجواء المنطقة. كان هؤلاء الشباب يأتون بباقات الورد ليسلموها إلى عائلة الشيخ”.

ويواصل: ” ولم تتوقف هذه الوفود الكريمة بعد تردي حالة الوالد الصحية، وقد بادرت عدد من المنتديات الالكترونية بترتيب زيارات لمجلس الوالد حيث تأتي جموع من الأخوة والأخوات حاملين معهم الورود والدروع ليقدموها لأحد أبناء الشيخ وعادة ما يتم إلقاء كلمات من الحشود تشيد بالوالد العزيز وبتضحياته وتؤكد المحبة والولاء له، ويلقي عادة أحد أبناء الشيخ كلمة شكر لهم وبعضا مما يتيسر عن حياة وجهاد الوالد.

أما بخصوص الشعار الذي اشتهر كثيرا  في فترة سجن الوالد، فاني أتصور بأنه كان يعكس حالة ترابط الشعب مع قيادته العلمائية والتي تمثلت في تلك الفترة بسماحة الشيخ الوالد حفظه الله. الشعار كان معبرا جدا وكان مهيجا للعواطف، وكما نعرف جميعا فان قضية السجناء كانت من بين أهم القضايا التي كان الناس يطالبون بوضع حل لها.

لا أستطيع رصد تلك الفترة الهامة من تأريخ الحركة المطلبية المباركة في البحرين، حيث إني كنت سجينا حتى أيلول من عام 1998 ولم أكن شاهدا لتلك الأيام العصيبة التي مرت على شعبنا.

من داخل السجن

فيما يحكي الأستاذ حسن المشيمع قائلا:

لقد عشنا أكثر فترات العيد في تلك الحقبة من الزمن الذي لا ينسى وراء قضبان السجن ولقد كان للاحتفاء بالعيد في داخل الزنازين لون وطعم مختلفين إلا أن الاختلاف لم يكن كبيراً.

كما استطاعت تلك الأيام برغم ثقل المعاناة والآهات التي تجرعها الجميع أن تجسد التلاحم القوي والمميز بين مختلف قطاعات الشعب وشرائحه مما لم يتحقق مثله لا قبل الانتفاضة ولا بعدها.

وأهم ما ميز أيام الأعياد في تلك الحقبة المضطربة أنها رسخت مفهوماً إسلامياً اجتماعياً سياسياً غاب عن التطبيق الفعلي العام وهو ما نص عليه الرسول (ص) في عدة روايات منها: ” من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم” وهذا ما بدا واضحاً وجلياً في طريقة استقبال أيام العيد حيث خلت من مظاهر الفرح والبهجة وعبر الناس عن حزنهم ومواساتهم لفقدان الأحبة.

أما التعاطي الشعبي الشهير :{لا عيد والجمري بعيد} وغيره من الشعارات الكثيرة التي رفعت في ذلك الوقت العصيب فهو من مفاخر هذا الشعب العظيم حيث عبر لا بالشعار فقط بل بالفعل عن حبه واحترامه لرموزه  وخاصة الشيخ الجمري، بل قدم التضحيات في سبيل ذلك.

ولا يخالجني شك أو تردد أن ما حدث من انفراج لهو جزء من فيوضات الله تعالى استجابة لتلك المواقف والإخلاص الذي أبداه المضّحون والمناضلون”.

سواد ومسيرة .. ومواجهة يوم العيد!

على أرصفة القرى وفي شوارع المدن استدعينا ذاكرة المكان، واستحضرنا صبيحة ذات عيدٍ مر من هنا .. وكانت لنا مع ” سترة ” ذكريات تسردها الجدران والطرقات، وأعدنا مع الأخ الأستاذ حسين إبراهيم  شيئاً مما مر عليه في صباه : ” من المعروف أن العيد يتميز ببهجته واكتسائه بوشاح الفرح، والأسر تأخذ أطفالها إلى الحدائق وتلبسهم الجديد .. والناس تتبادل التهاني والتحيات ويسود جو السعادة في كل مجتمع، تلك الصورة اختفت فور دخولنا في فترة الأحداث فقد كانت الأعياد ضرباً من الحزن والمأساة! فجو التوتر هو السائد والوجوم لا الفرح هو صفة الأعياد”.

ويتذكر إبراهيم أحد أيام الأعياد التي يقول إنه يتذكر مرارتها: ” كنت في مرحلة الصبا حيث شهدت تلك الأعياد وكل عيد يمر بشيء يميزه، ففي أحد الأعياد وقد أتى بعد اعتقال الشيخ الجمري، وطبيعي أن يكون شعار ” لا عيد والجمري بعيد ” في أوجه .. كانت هناك دعوة للبس السواد وقد خرجت مسيرة تحولت إلى مواجهة مع قوات مكافحة الشغب! تصور مواجهة في يوم العيد .. أيام لا يمكنني نسيانها بالفعل “.. ويختم إبراهيم: ” الحمد لله نحن ننعم بنعمة الاستقرار الآن وقد عادت الأعياد بعد الانفتاح فهناك بهجة وتزاور .. إلا أن تلك الفترة لا بد وأن لها أثراً حيث لا يزال الناس يزورون الشهداء في كل عيد ” ..

كذلك تراءت لنا نسخة من المشاهد التي سمعنا منها كثيراً في منطقة ” السنابس ” حيث كانت لنا وقفة مشابهة مع الذكرى التي ينقلها الأخ فاضل عباس الذي يقول أنه لم يشهد طيلة الفترة في السنابس ولكنه كان يتابعها باستمرار: السنابس كغيرها من المناطق سادتها المشاعر التي اتسمت بها تلك المرحلة التي لن تنفصل عن تاريخ مجتمعنا، وللعودة لما قبل الأحداث فإن شكل العيد في السنابس مميز، فهو يتسم بالفرحة والبهجة والحيوية التي يمثلها الشباب الذين يلفون الطرقات في مجموعات، ويرتدون الثياب الجديدة ويباركون لكل البيوتات، وتكون المآتم مفتوحة لتبادل التهاني وتناول الحلوى، ومن الطبيعي أن يزول كل ذلك في فترة الأحداث وأخبار تلك الأيام  وعن السجون وعن الشهداء، اختفى كل ذلك ولم تبق إلا صلاة العيد، وشيئاً فشيئاًَ ومع الإصلاح عاد الوضع وبقيت زيارة قبور الشهداء وأهاليهم سمة تؤكد تأثير الأحداث على مظاهر العيد”.

ثقافة الحزن .. وموقف العلماء والنخبة ..

البلاد القديم .. منطقة انطلقت منها إرهاصات تلك الفترة وعاشتها لحظة بلحظة، فلم تفت من ذكريات تلك الفترة ناحية أو زاوية، يقول عنها ” علي القطان ” أنها عاشت الذبول أيام الأحداث وكان العيد بلا لون ولا طعم، حيث يتفرق الناس بعد الصلاة وقد يزورون قبور الشهداء وسينتهي كل شيء مع الساعة التاسعة صباحاً! استمر ذلك طيلة الفترة، ومع أول هدوء وانفراج عدنا لتلك الأيام، حتى أن الشباب يصرون على الشيخ علي سلمان لمشاركتهم في “لفتهم ” على المنازل للتبريك.. وطبيعة تلك ” اللفة ” تكون أقرب للزفة لما تحويه من حيوية وفرح وابتهاج تعيشه المجموعات التي تمر على البيوت والتي تكون مستعدة بالحلويات والمأكولات المتنوعة. وما شهدناه بعد الأحداث يبعث على السرور، ففي البلاد القديم وفي اليوم الثاني من العيد يقيم مأتم الجشي والأهالي مهرجانأ بهيجاً يسعد به الجميع، وهذا مظهر أشجع عليه علينا أن نتخلص من ثقافة الحزن التي نغلبها في حياتنا فلا بد من وقت نفرح فيه” .

“كرزكان” أيضاً عاشت الحالة وتأثرت بتلك الفترة وأكثر ما تأثر فيها العيد، حيث يقول الأخ جعفر محمد حسن: إن العيد قد رجع كما كان في كرزكان، ولكن ليس بالقوة التي كان عليها في فترة ما قبل الأحداث، حيث ينطبع الوضع السياسي والأمني على مجمل تفاصيل الحياة، ولا ينبغي أن يستمر حالنا كما هو. لا بد لنا من أن نثبت الأمور الصحيحة ونؤكد عليها، ونحتاج إلى توجيه من العلماء الأفاضل والنخبة لزيادة الوعي بأهمية الأعياد كأيام للعبادة وللتواصل الاجتماعي، إنها أيام فرح يجب أن نفرح فيه بما يرضي الله، وألا يذهب البعض إلى الفرحة على نحو قد يكون محرماً أو يجر إلى محرم والعياذ بالله ، فأيام الفرح للفرح وأيام الحزن للحزن.

“كرباباد”معاناتها لم تختلف عن بقية المناطق، إلا أن الأستاذ سيد فاضل الكربابادي يرى أنها قد تكون عاشت ما لم يعشه غيرها في أعياد فترة الأحداث: “حيث عشنا أعياد لم تقم فيها صلاة العيد ! تصور لم تقم صلاة العيد! فكيف يكون هناك عيد! رُفع شعار “لا عيد والجمري بعيد ” بقوة وشهد عليه جدار كرباباد الشهير، ولا زالت فترة الأحداث بكل ذكرياتها تلقي بظلالها على أجواء العيد ربما بدرجة أخف ولكنها موجودة. يكفي أن الفعالية الرئيسية في كل عيد الآن هي زيارة قبور الشهداء حيث يتم ترتيب باصات تلف على قبور الشهداء في مختلف مناطق البحرين”.

ويعلق الكربابادي :” قد لا أتفق مع تلك الفكرة ولكني أجدها أكثر تعبيرا عن تأثير فترة الأحداث على مظاهر العيد، اقتراحي أن نقيم فعاليات أخرى ونزور الشهداء ولكن ليس في يوم العيد فقط لماذا لا نزورهم في محرم وصفر ومختلف أيام العام .. لا بد من أن ندرس وضعنا جيداً”.

العيد ..هالسنة غير ..ولجنة للتراث

الدراز ..التي عاشت الأحداث مسيرة وموقفاً وسجوناً وغربة وشهادة، عاشت أعياد التسعينات منطلقة بـ ” لا عيد والجمري بعيد ” ولبست السواد في بعض الأعياد! وخرجت مسيرات في أخرى! ولم يكن هناك من يتبادل التهاني، ولكنها عادت في أول بادرة للعودة، وبدأت قصة عودتها حين انطلقت دعوة على المنتدى الإلكتروني الخاص بالقرية لإعادة المهرجان الشعبي الذي كان يقام بشكل عفوي في منطقة السوق الشعبية القديمة وانقطع مع مجيء الأحداث، وبالفعل تم الترويج للفكرة بشعار: ” العيد في الدراز هالسنة غير “، والذي ظل معتمداً في كل عيد فيما بعد، ويقام الآن مهرجان تراثي سنوي تكونت على إثره لجنة مختصة عرفت بلجنة إحياء التراث الشعبي البناء، ولها نشاط توسع كثيراً .

وإذا كان في تجربة الدراز، التي حدت حدوها بعض المناطق، محاولة للعودة لما قبل جراح الأحداث، إلا أن بصمة التسعينات تظل واضحة حيث تبدأ فعاليات المهرجان بزيارة الشهداء! فالتسعينات مرحلة خالدة لا يمكن نسيانها أو الانفصال عنها .

العيد للفرح .. لنستفد من تجارب الآخرين ..

من جانبه يرى الأستاذ عبد الحسين المتغوي أنه لو لم يكن هنالك بعد سياسي يضغط  لما كان من المتوجب أن نتعاط مع الأعياد بالصورة التي سادت في فترة التسعينات، فالأعياد من أيام الله التي خصصت للعبادة والفرحة بإنهاء العبادة، وهي تأتي لتؤكد استيعاب الإسلام لحاجات البشر النفسية. لننظر إلى تجارب أهلنا في فلسطين وفي العراق، هل انتهت حياتهم؟! هم يزفون الشهداء ويودعونهم بحزن، ويعيشون المجازر والمصائب، ولكنهم يفرحون بتزويج أبنائهم وبناتهم في نفس الأسبوع، مشكلتنا أننا نغلب طابع الحزن على الفرح دائماً، وهذا ما لا ينبغي.