بين ولادته ورحيله شهدت البحرين أهم مفاصل حراكها السياسي وتحولاتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. فبين دروب القرية التي شهدت مولده العام 37، وسوق المنامة ومواقع الدراسة المحلية والنجفية العام 62، والعودة مع برلمان 73 وعضويته في الكتلة الدينية وحل المجلس واعتراضه على قانون أمن الدولة، وتعيينه في المحكمة الجعفرية الكبرى وإزاحته منها العام 88 واعتقاله، ثم تقديمه عريضة نخبوية لإعادة المجلس الوطني المنتخب بتوقيع 300 شخصية بحرينية من مختلف الطوائف والأطياف العام 92، واجتماعه مع مقدمي العريضة ومنهم الشيخ عبداللطيف المحمود، ومحمد جابر صباح، مع الأمير الراحل في يناير/ كانون الثاني 93، واعتقاله في أبريل/ نيسان 95 ثم في يناير 96 بعد فشل مشروع أصحاب المبادرة والتهدئة والحكم عليه بالسجن لعشر سنوات وغرامة 15 مليون دولار في 7 يوليو/ تموز 99، وبعد يوم واحد يتم العفو عنه ليوضع تحت الإقامة الجبرية.
حتى إصابته في مايو/ أيار 2000 بجلطة في القلب وآثارها تبقى إلى حين طريق طويل.
ثم اجتماع أعلى قمة القيادة معه ورموز أخرى من المعارضة في فبراير/ شباط 2001 بشأن ميثاق العمل الوطني، ما أدى إلى التصويت عليه بنسبة 98.4 في المئة. وقد هدته السنون الحُبلى في البحرين عبر سنوات ذاك المشوار؛ فأصيب بأكثر من جلطة أثناء عملية الظهر بألمانيا لينقل إلى الرياض للعلاج، ثم يعود في فبراير 2003 إلى مسقط رأسه مقعداً بسبب الجلطات الدماغية.
يعود صاحب القلب الكبير الذي أثر فيه مليّاً ما حصل ويحصل للوطن الصغير من جروح غائرة غالباً ما تندمل بوقفة وتكاتف المخلصين والغيارى من الشعب الأصيل، لكنها تعود من جديد بسبب خفافيش الظلام التي تُحلق في سمائنا كل عقد، وتعود بنا لنسبح في بركة من الدماء، والخلافات توسع الهوة المجتمعية والسياسية بين كل الأطراف. إلا أن عودته الأخيرة تلك غيبته عن أحداث الساحة حتى غاب كليّاً عن المساحة الجسدية له في هذه الدنيا الفانية في ليلة بحرينية قاسية لكن ببرودتها الشديدة يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول العام 2006.
هذا الرجل كان ولايزال حاضراً في كل الساحات البحرينية في ذكراه الخامسة هذا العام. رجلٌ لم يتخلَّ عن شعبه أبداً، وأصر – كما يذكر أحد أبنائه – على ملازمته له في المعاناة وربط مصيره بمصيره. حتى عندما أرسلت إليه جهات رسمية من يساومه على أبنائه إذا لم يتخلَّ عن تصدره الساحة، قال كلمته الشهيرة: «كل أبناء الشعب أبنائي».
كان متفائلاً حتى في أيام السجن الانفرادي… وهو يردد يجب أن نتحمل لأننا اخترنا هذا الطريق للإصلاح. لقد كان يطالب ولكن عندما تتحقق بعض المطالب أيضاً كان يشكر من حققها على المستوى الرسمي، كما فعل مع بداية الانتخابات البلدية المباشرة في العام 2000.
كان يؤمن بأن الحوار بشأن الإصلاح يجب أن يكون مع رجال السياسة وليس مع رجال الأمن. وحين زار القصر الأميري في أكتوبر/ تشرين الأول 2000 قال هناك إن شعب البحرين يستحق أكثر من انتخابات بلدية، فردّ عليه الأمير وقتها: سترون أياماً أجمل في الطريق.
وعندما رحل في ذاك الزمان القريب كانت البحرين غير، ومن عناوينها أن جمعية المنبر الإسلامي قالت إن الوطن فقد رمزاً للوحدة الوطنية، وأحد المسئولين البارزين في الدولة قال إن الفقيد الجمري له مواقف وطنية لا تُحصى. وقال أحد المستشارين في الدولة إن الجمري كان رمزاً للحق والثبات عليه. كما قال رئيس مجلس الشورى وقتها إن الشيخ عبدالأمير الجمري رجلٌ دافع عن مبادئه حتى وفاته. وقال وزير العمل وقتها إن الجمري قائد استطاع توحيد الناس. ومن كبار الفعاليات الاقتصادية في البلاد من قال إن تضحيات الجمري أسهمت في مجيء المشروع الإصلاحي. ولا نعتقد بأن تلك الكلمات كانت مجرد مجاملات وقتية في لحظات العزاء به في مجلس أفراد عائلته ببني جمرة والتي حضرها كبار المسئولين في الدولة.
وفي الذكرى الخامسة لرحيل العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري تجعله معنا اليوم حاضراً كأقرب ما يكون من قبل. أليس هو من كتب رسالته إلى القيادة العليا في البلاد في الرابع من ديسمبر 2000، موضحاً موقفاً لو رُكن إليه لما كنا بحاجة إلى أي خبير قانوني وسياسي ينظر إلينا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولما أعدنا قراءة ما قاله اليوم بحسرةٍ على ما فات. قال فيما قاله كأسس مبدئية لنجاح الإصلاح: التزام جميع الأطراف بدستور البلاد والتقيّد بنصوصه وأحكامه وخصوصاً فيما يتعلق بنظام الحكم والمشاركة السياسية ومبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وأن تتعهد جميع الأطراف بحماية النظام الديمقراطي والدفاع عن الشرعية الدستورية واحترام الدستور. كما أن يؤمن الجميع بأن الديمقراطية ليست فقط نظاماً سياسيّاً بل إنها تمثل ذلك الوعاء الذي يحمي الوحدة الوطنية والقاعدة التي ترتكز عليها العلاقات السليمة بين السلطة وفئات المجتمع على اختلاف ميولها الثقافية والعقائدية والمذهبية. وإن التطبيق السليم للديمقراطية كفيلٌ بوضع نهاية حميدة للعنف والعنف المضاد واستخدام القوة. مع ضمان الحقوق والحريات التي كفلها الدستور واحترام وتطبيق الاتفاقيات والمواثيق الدولية كافة وخصوصاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان! أليس هذا هو ما يطمح إليه الجميع اليوم من جميع القوى الفاعلة في الساحة وبلا تصنيفات لأي منها؟ أيوجد بيننا من يقف ضد هذه المبادئ الأساسية في عدالة أي نظام سياسي على وجه الأرض؟
وأليس هو من قال في الوحدة الوطنية البحرينية: إن الطائفتين سواء كانوا سنة أم شيعة مهما تحدثوا أو ذكروا من أدلة أو أحداث لدعم أطروحاتهم الطائفية المريضة؛ فإن النتيجة والمحصلة دائماً أن نجاحهم في هذه الأطروحات لا يأتي إلا على حساب الوطن الذي ينبغي أن يكون خطّاً أحمر على الجميع أن يتجنبوه وإن حصلوا على بعض المكاسب الآنية هنا أو هناك.
رحم الله الرجل الحكيم والقيادي القدير… ونحن في ذكراه الخامسة لن نقول: «ماذا لو كان الشيخ لايزال معنا، فكيف سيتصرف وكيف سيلعب دوره»… لأنه بالفعل معنا. ولن نضيف شيئاً آخر سوى أن نقول: «صبحك الله بالخير يا أبا جميل». وربما سنسمع من وراء الحُجب ردّاً له صدى قريب يقول: ليصبح الله وطننا بخير زهوره التي تروى هذه الأيام من معين الفرج القريب بإذنه إنه سميع الدعاء
محمد حميد السلمان
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3391 – الثلثاء 20 ديسمبر 2011م الموافق 25 محرم 1433هـ