المَعارِفُ الغَيْبِيَّةُ: بَيْنَ الرُؤْيَتَيْنِ الإلَهِيَّة والمَادِيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

هناك عوامل كثيرة تأثر في سلوك الإنسان وأفعاله، ومن أهم هذه العوامل – إن لم تكن أهمها – معتقدات هذا الإنسان وأفكاره، فمن يريد أن يصلح نفسه، عليه أن يبدأ بتصحيح اعتقاده، وما يؤمن به، وإلا فإنّه سيعيش حياة الفوضى. ومن هنا نتطرق إلى مسألة حقيقة الإيمان بالغيب، وإمكانيته، وأدواته، ومن ثم نختم بآثار هذا الإيمان على سلوكنا. فهنا محاور ثلاثة:

المحور الأول: في تعريف ( المعرفة الغَيبيّة ) لغة واصطلاحا

أما ( المعرفة ) لغة: قال ابن منظور في لسان العرب: العِرفانُ: العلم؛ قال ابن سيده: ويَنْفَصِلانِ بتَحْديد لا يَلي بهذا المكان، عَرَفه يَعْرِفُه عِرْفة وعِرْفاناً وعِرِفَّانا ومَعْرِفةً واعْتَرَفَه؛ قال أَبو ذؤيب يصف سَحاباً:

مَرَتْه النُّعامَى، فلم يَعْتَرِف خِلافَ النُّعامَى من الشامِ رِيحا(١)

وكذلك تطلق المعرفة ويراد بها مطلق العلم في الاصطلاح، قال الشيخ المصباح -رضوان الله تعالى عليه-: “أما المعرفة التي هي موضوع علم المعرفة فقد تؤخذ بأي معنى من المعاني المذكورة وقد تؤخذ بمعنى آخر فذلك تابع للاعتبار والاتفاق: ولكن لما كانت دراسة مسائل المعرفة ليست مختصة بنوع منها إذن من الأفضل أن يكون المقصود هو المعنى الأعم المساوي لمطلق العلم(٢)“.

أما ( الغيب ) لغة: جاء في معجم الغني: “جمع: غيوب. [غ ي ب]. ( مصدر غاب ).                                 

١. هو الله عالم الغيب: عالم بما خفي وبكل الأسرار وبما سيحدث

٢. هو في عالم الغيب: مجهول لا يرى

٣. سمعت صوتا من وراء الغيب: أي من موضع لا أراه ولا أعلمه”(٣)

ومعناه في الاصطلاح(٤): “هو الذي لا يكون محسوسا ولا مشارا إليه “(٥)

فتحصل من ذلك، أنّ المعرفة الغيبية تطلق ويراد منها: تلك العلوم التي ندركها، ولا تكون خاضعة للحواس الظاهرية.

المحور الثاني: إمكان الوصول للمعارف الغَيبيّة وأدواته

توجد مساحات كثيرة تجلى فيها الصراع الفكري، وإدراك وجود الغيب، والتصديق به من هذه المعتركات، التي كثر النقاش فيها بين الفلسقة الغربية والإسلامية. فمن هنا نستعرض أهم أركان المذهب التجريبي للفلاسفة الغربيين – والتي يلزم من بعضها إنكار وجود أو معرفة الغيب -، ثم نقوم بنقدها.

☆ أركان المذهب التجريبي ونقدها

الركن الأول: أنّ الذهن البشري لا يتصور ولا يدرك إلا ما يصل إليه عبر الحس، فالإنسان يحكم بوجود النار أمامه؛ لأنه يلمسها ويراها بعينه، وأما بدون ذلك فلا يمكن له أن يتصورها بشكل مستقل عن الحس. فقد جاء في كتاب قصة الفلسفة الحديثة: “ومن ذلك ترى أنه – يقصد جون لوك(٦) يعتقد أن العقل شيء قابل منفعل ليس إلا، فلا يسعه إلا أن يدرك ما تقدمه إليه أعضاء الحس أما هو بنفسه فعاجز كل العجز أن يخلق بنفسه أفكارا غير التي تمده بها الحواس(٧)

الركن الثاني: دور الذهن البشري يقتصر على التصرف في المعاني المحسوسة، فتكون أدواره ثانوية لا أساسية، فيمكنه القيام بالتعميم والتجريد -مثلا-، فمن يرى زيدا من الناس يمكنه إسقاط جميع مختصاته ومميزاته، فيحصل حينئذ على معنى أعم وهو الإنسان. وهذا ما نقل عن ( جون لوك ): ” إن العقل حينما يتقبل المواد الأولية التي يقدمها له الإحساس والتأمل الباطني يكون لملكاته من القوة ما يستطيع به أن يجمع أشتات الآثار المتفرقة التي جاءت بها هذه الحاسة أو تلك، فيركب منها أفكارا مركبة. وبهذا يكون العقل قوة إيجابية تتناول ما ينطبع في صفحة الذهن من آثار، ويؤلف منها أفكارا، – ثم يضيف زكي نجيب – ولكن < لوك > يسرع بملاحظة أن هذه قوة صورية محضة، لأنها لا تضيف شيئا جديدا إلى مادة الأفكار “.(٨)

 

ويلاحظ على الركنين المتقدمين:

أولًا: بأنّ لازم هذا الكلام إنكار مفهوم العلية – وهو أن تكون إحدى الظاهرتين سببا في وجود الظاهرة الأخرى، فلولا الظاهرة الأولى لما وجدت الثانية -، مثلا نحن عندما نضع الماء على النار، ندرك بحاسة اللمس ( حرارة الماء )، وندرك بحاسة البصر ( تبخر الماء )، ولكنّ الحس يقف عاجزا عن إدراك أنّ ( الحرارة ) سببٌ في ( تبخر الماء ) – وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها -، فمن أين جاء هذا التصور إلى أذاهننا إن كانت تقتصر في مدركاتها على الحس؟ أفلا يعني ذلك بأنّ الذهن البشري لا يتقصر في مدركاته على ما يصل إليه عبر الحس!!

وأما من لا يجد حزازة في إنكار مبدأ العلية، فلازم ذلك سقوط جميع العلوم الطبيعية عن الاعتبار؛ لأنّها تقوم وترتكز عليه. وإن أحببت التوسع في هذا المجال، راجع: فلسفتنا، للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

ثانيًا: ونكتفي هنا بتلخيص ما ذكره المفكر العظيم السيد محمد باقر الصدر في كتابه فلسفتتا، ومفاده: لو كان الذهن البشري مقتصرا في مدركاته على الحس والتجربة لما أمكنه الحكم باستحالة شيء من الأشياء؛ لأنّ التجربة أقصى ما تدل عليه هو عدم وجود الأشياء، ولكن هذا لا يعني عدم إمكان وجودها، فأنت تلاحظ فرقا شاسعا بين وجود شخص في المريخ وبين وجود مثلث له أضلاع أربعة، فالقضية الأولى لم تحصل ولكنها ممكنة، أما الثانية فهي ليست لم تحصل فحسب بل إنّها من المستحيل أن تحصل. فهنا يكون التجريبيون بين طريقين لا ثالث لهما:

أما أن يعترفوا باستحالة أشياء معينة، فيكون ذلك إيمانا منهم بوجود معرفة غير حسية. وهذا ما ندعيه.

وأما أن ينكروا مفهوم الاستحالة، فلا يبقى فرقا بين القضيتين، ويلزم من إنكار مفهوم الاستحالة جواز التناقض – أي أنّ صدق القضية وكذبها ممكن في لحظة واحدة -، ولا يخفى ما لذلك من ضرورة انهيار جميع العلوم والمعارف البشرية، فتأمل.(٩)

الركن الثالث: إلغاء الأحكام العقلية البديهية – وهي التي يكفي تصور الموضوع والمحمول للإذعان بها، مثل: كون الكل أكبر من الجزء -، وأرجاعها إلى قضايا تجريبية حسية. قال يوسف كرم:

مبدأ المذهب الحسي أن المعرفة الحقة هي المقصورة على ما يبدو للشعور بأعراض محسوسه وأن ما لا يبدو محسوسا وهمٌ محض”(١٠)

وقال جورج بوليتزير: “ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر، إنها الإحساس”(١١)

ويمكن مناقشة هذا الركن بعدة مناقشات، وأكتفي بذكر واحدة منها: لو سلمنا جدلا بأنّ جميع الأحكام العقلية ترجع إلى التجربة، فيلزم من ذلك أنّ المعيار الوحيد لصدق القضايا أو كذبها هو التجربة، وإن كان كذلك نتسائل حينئذ، هل أنّ حكمنا هذا – من أنّ المعيار الوحيد لصدق القضايا أو كذبها هو التجربة – خطأ أم صحيح؟

فإن كان الحكم خطأً، ثبت بذلك وجود أحكام غير محتاجة للتجربة، وهذا ما ندعيه.

وإن كان صحيحا، نتسائل، هل أنّ هذا الحكم بالصحة وليد التجربة أم لا، فإن كان ليس وليد التجربة، ثبت مدعانا – وهو وجود أحكام غير محتاجة للتجربة -. وإن كان هذا الحكم بالصحة وليد التجربة، إذن فنحن قبل أن نجرب لم نكن نؤمن بالتجربة كمقياس في الأحكام، وبعد أن تمت التجربة قد قيّمنا هذا الحكم على أساس لم يكن معتبرا عندنا، فتكون صحة التجربة غير ثابتة،إذن فهذا الحكم المتقدم – الذي هو الحكم المنطقي الوحيد – غير ثابت بطريق أولى.(١٢)

الركن الرابع: أنّ الإنسان يسير – وبشكل دائم – في تصديقاته وأحكامه من الأحكام الجزئية إلى الأحكام الكلية، فلا يوجد سبيل إلى استنتاج قواعد كلية أو عامة إلا التجربة والملاحظة، ومن هنا اتبع أصحاب المذهب التجريبي المنهج الاستقرائي في تحصيل العلوم.

قال زكي نجيب محمود: “لهذا نهض بيكون(١٣)ووضع أساسا جديدا للبحث كانت أولى خطاه الملاحظة والتجربة وقد اشترط فيهما أن تستخدما في بطء شديد وحذر شديد”(١٤)

ونقل يوسف كرم عن فرنسيس بيكون: “هذا المنهج – أي المنهج الاستقرائي- هو القسم الإيجابي من المنطق الجديد والحاجة إليه ماسة لأن تصور العلم قد تغير”(١٥)

ويلاحظ على هذا الركن بأن نقول: كيف نسوغ تعميم الحكم إلى القضايا التي لم تخضع للتجربة، هل لأنّ الذهن يذعن بأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، أم أنّه لا يذعن بذلك. فإن كان يذعن بذلك، ثبت وجود أحكام لا تحتاج للتجربة والملاحظة، وهذا ما ندعيه.

وإن كان الذهن لا يذعن بذلك، إذن لا يصح تعميم الحكم للقضايا التي لم تخضع للتجربة، بل لا بد من تجربة جميع القضايا عند إرادة تعميم أي حكم، وهذا من الصعب المستصعب – إن لم يكن مستحيلا -.

يقول الشهيد مطهري – رضوان الله تعالى عليه -: “من هنا يتضح بجلاء أن الذهن في جميع القضايا التجريبية، حيث يسير من الأحكام الجزئية إلى الأحكام الكلية يعتمد على مجموعة أصول كلية غير تجريبية، لكنه يغفل عنها بحكم ممارسته الذاتية المستمرة لها”(١٦)

هذه هي أهم أركان المذهب التجريبي – بشكل إجمالي-، وبعضها أدت بالبعض لإنكار وجود الغيب ومعرفته، ومن ثم ابتعاده عن الله عز وجل، وعن مراتب الكمال، فتكون نتيجة ذلك تسافله المعنوي والأخلاقي.

ونؤكد هنا على أنّنا لا نلغي دور التجربة وأهميتها الكبيرة في الحياة الإنسانية، إلا أنّنا لا نحصر المعرفة عليها فحسب، بل نقول بوجود أدوات أخرى للوصول إلى المعارف كالبديهيات العقلية وغيرها.

بعد أن عرفت بطلان المذهب التجريبي، وأنّ المعارف لا تنحصر في حدود التجربة، إنما تشمل المعارف العقلية والغيبية، فحينئذ لا بد من توضيح السبيل إلى تلك المعارف، وكيف يمكن للإنسان الوصول إليها من غير توسط الحس أو التجربة؟

☆ سبل الوصول للمعارف الغيبية

ذكر علماؤنا عدة من القضايا التي تكون نافذة لنا على وجود الغيب ومعرفته، وهذه القضايا لا نحتاج في تصديقنا بها للأدوات الحسية، وإنما هي عقلية بحتة، أذكر هنا بعضها(١٧):

١-تجرد النفس: من الأبحاث التي ركز عليها علماء النفس بشكل كبير، بحث تجرد النفس عن المادة، وإثبات ذلك يشكل لنا نافذة على الغيب؛ لأنّ النفس أمر غير محسوس ولا مادي، وقد ذكر حكماء الإسلام في هذا المقام براهين عديدة، أكتفي بذكر واحد منها(١٨):

وهو ما يعرف ببرهان ( ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغيرات الجسدية )، ويرتكز على مقدمتين:

المقدمة الأولى: أنّ للإنسان أفعال مختلفة، ومع ذلك تراه يسند جميع هذه الأفعال إلى موجود واحد، وهذا الموجود ما يعبر عنه بكلمة [ أنا ]، فأنت عندما ترجع إلى وجدانك تجد أنّك تنسب جميع أفعالك إليها، فتقول: أنا كتبت، وأنا تحركت، وأنا أكرمت، وغيرها من الأفعال، فعلى الرغم من اختلاف نوعية الفعل لم ننسب أفعال النفس إلى شيء متعدد، وإنما نسبناها إلى شيء واحد وهو [ أنا ]، وهذا مما لا يختلف فيه المادي عن الإلهي.

المقدمة الثانية: ثبات مصدر أفعال الإنسان – أعني النفس -، حتى مع تغير الأحوال وتبدلها، فأنت تتصف تارة بالطفولة، وأخرى بالصبا، وثالثة بمرحلة الشباب، وأخيرا بالكهولة، ومع ذلك إلا أنّك تسند هذه الأحوال – على اختلافها وتبدلها – إلى ذات واحدة وهي النفس، فتقول: أنا كسرت هذا عندما كنت طفلا، وأنا شاهدت هذا الموقف في الصبا، وأنا درست في الجامعة في مرحلة الشباب وهكذا، فلو كانت النفس مادية لتغيرت وتعددت مع تبدل أحوال الجسم، ولكنها ليست كذلك كما هو واضح. فيثبت بأنّها مجردة وغير خاضعة للحواس والتجربة.

يقول الشيخ السبحاني – حفظه الله –: “وحاصل هذا البرهان عبارة عن كلمتين، وحدة الموضوع لجميع المحمولات، وثباته في دوّامة التحولات. وهذا على جانب النقيض من كونه ماديا”(١٩)

٢- البراهين العقلية: إنّ الحسيين وبسبب أُنسهم بالمادة، وانشغالهم بها، قد غفلوا عن البراهين العقلية، والتي هي خير دليل على وجود عالم الغيب، وإمكان معرفته، فمن هنا حبسوا المعرفة في حدود الحس والتجربة، أما الإلهيون فقد ذكروا أكثر من برهان عقلي على ذلك، واستدلوا بها على وجود الله – سبحانه وتعالى – المنزّه عن الحس والجسمية(٢٠)، وبما يقتضي المقام، نقتصر على ذكر أحد أشهر هذا البراهين، وهو المعروف ( ببرهان الإمكان ):

جاء في تقرير لمحاضرات الشيخ السبحاني – حفظه الله – قوله: يبتني هذا البرهان على تقسيم المعقول إلى الواجب والممكن والممتنع، وهو من التقسيمات العقلية الواضحة. والممكن هو ما يحتاج في وجوده إلى علّة تخرجه من العدم إلى الوجود، فهذا العالم الإمكاني يكشف عن وجود علّة أوجدته. ثم يدور أمر تعيين هذه العلة بين عدّة فروض أكثرها باطل لأدائه إمّا إلى الدور أو إلى التسلسل الباطلين، ويتعيّن منها انتهاء عالم الإمكان إلى علة فوقه، واجبة الوجود، هي الّتي أوجدته”(٢١)

ويمكن استفادة هذا البرهان من بعض آيات الذكر الحكيم:

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(٢٢)

قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وَأَقْنى﴾(٢٣)

قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ﴾(٢٤)

قال تعالى: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ﴾(٢٥)

وبعد أن ثبت لك تجرد النفس عن المادة بالأدلة العقلية الصرفة المستغنية عن الحواس والتجارب – وهذا لا يعني إلغاء دور التجربة في محلها –، وثبت كذلك ضرورة وجود واجب الوجود وهو الله – تبارك وتعالى – الغني المطلق، تعرف بذلك بأنّ معارف الإنسان لا تختص بأدواته الحسية، بل هي تشمل ما وراء ذلك، وهذا ما نعبر عنه بالمعارف الغيبية.

المحور الثالث: ثمرات الإيمان بالغيب وأثره على السلوك

قد يستائل أحدهم، بأن يقول: ما هي فائدة الإيمان بالغيب؟ وما هي الحاجة إلى ذلك؟ فأنت ترى أنّ الإنسان إذا اقترب من المريض بمرض معدٍ، فإنّه سيمرض أيضا، سواء آمن بالغيب أم لم يؤمن، وأنّ من تصيبه رصاصة سيموت، بلا فرق بين أن يكون مؤمنا بالغيب أو عدمه، فما هو الأثر المرجو من ذلك إذن؟!!

وتتضح الإجابة على هذا السؤال، بالتأمل في البرهان المتقدم، فقد اتضح لك بأنّ الإنسان هو عين الفقر والحاجة، فلولا مدد الله – تبارك وتعالى – ورحمته، لما بقي الإنسان لحظة واحدة على قيد الحياة.

وقد جاء في تقرير لأبحاث السيد منير الخباز – حفظه الله- قوله: “لأن عالم المادة عالم متحرك، فكل شيء فيه يتحرك، والحركة تعني الانتقال من وجود إلى وجود، ومن مرحلة إلى مرحلة، ومن شكل إلى شكل آخر، فجسدنا هذا في كل لحظة تموت منه مئات الخلايا، وتحيى في الوقت نفسه مئات الخلايا، كما هو مقرر علميا، وما دام الإنسان في حالة حركة دائمة، فهو يحتاج إلى مصدر يواكب حركته ويمده في كل لحظة بالعطاء، ولذا كانت حاجة الإنسان إلى الله حاجة ذاتية.”(٢٦)

ونضيف إلى ذلك أيضا، ثمرات ثلاث يحظى بها المؤمن بالغيب، ويحرم منها المادي، والذي يقصر الوجود على ما يصل إليه عبر الحس.

١.الطمأنينة والاستقرار النفسي

من منا لا يطلب الراحة والسعادة، فهي غاية الإنسان – كل إنسان -، وهذه الغاية لا تحصل إلا بالارتباط بالكمال اللامتناهي – ومصادقه الوحيد هو الباري عز وجل-، وأما البعيد عن الله – تبارك وتعالى – فهو وإن شعر بالسعادة إلا أنّها وهمية، وغير دائمية، وسرعان ما تزول، هذا ما نشهده بالوجدان، وما أثبتته الإحصائيات الحديثة(٢٧)، قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.(٢٨)

٢. الإيمان بيوم النصر والفضيلة

من لا يؤمن بالغيب يعوّل فقط على الأمور المادية، ففي حالة عدم تناسب الظروف معه، فإنّه سيعيش التردد والقلق، فمثلا: في الحروب العسكرية هو يعتمد على أسلحته المادية، ومتى ما وُجِدَ مانع من استعمالها، ستراه يفقد الأمل، وغير قادر على تقديم أي دور، بخلاف المؤمن فإنّه في حالة نشاط دائم سواء تناسبت معه الظروف المادية أم لا ؛ لتصديقه بوعد الله عز وجل ونصره، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾.(٢٩)

يقول سماحة السيد منير الخباز -دامت توفيقاته-: “إذن من يؤمن بالغيب يؤمن بأن الفضيلة ستنتصر حتمًا يومًا من الأيام، وأن الحق سينتصر حتمًا يومًا من الأيام، صحيح يحتاج الانتصار إلى إعداد مادي، هذا لا ينكر، يحتاج الانتصار إلى أسباب مادية، لكن الأسباب المادية وحدها ليست هي العامل الحاسم للمعركة، العامل الحاسم في المعركة يحتاج إلى مدد غيبي، ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾(٣٠).(٣١)

٣. بلوغ الأمن الاجتماعي

لن يكون الإنسان قادرا على الإنتاج والإبداع، إذا عاش الخوف والخطر، فلا بد من توفير الاستقرار في المجتمع، للعيش في حياة حضارية، ومن لا يؤمن بالغيب لا يوجد ما يردعه عن ارتكاب الموبقات والجرائم؛ لأنه يعيش العبثية والفوضى، فعلى الرغم من وجود القوانين الوضعية إلا أنّها لم تكن مانعا من انتشار حالات التعدي والاغتصاب والتحرش في الأوساط المادية، وفي قبال ذلك، نجد المرتبطين بالغيب – ارتباطا حقيقيا – يمتنعون عن مصادرة حق الغير والاعتداء عليه؛ لاعتقادهم بوجود الحساب والعقاب في العالم الأخروي، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [٢٩] وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيراً﴾(٣٢)، وكيف لا يسود الأمن بين المؤمنين، والإسلام أكد على حقوق بعضهم على بعض – وبشكل دقيق جدا -، ففي الكافي الشريف قد ورد عن الإمام الصادق – عليه السلام – أنّه قال: :قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : مَنْ نَظَرَ إِلَى مُؤْمِنٍ نَظْرَةً لِيُخِيفَهُ بِهَا أَخَافَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ .”(٣٣)

هذا إجمال ما أردت بيانه، في توضيح الفارق بين نظرة الإلهيين – خصوصا المسلمين منهم – والماديين، في ما يرجع إلى ما وراء الطبيعة والمادة، وبه قد عرفت، أنّ الإنسان متى ما اكتفى واستغنى بنفسه، ازداد تسافلًا وانحدارًا، ومتى ما تمسك بعلاقته مع خالقه تعالى، ازداد سموًا ورفعةً.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

 

الهوامش

(١) لسان العرب ٩/٢٣٦، ابن منظور

(٢) المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ١/١٤٠، آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

(٣) المعجم الغني، ص ٢٩٥٧

(٤) أعني في اصطلاح الفلاسفة

(٥) معجم المصطلحات الفلسفية ٢/٣٢٩، الباحث حسين لطيفي

(٦) وهو أحد أشهر رواد المذهب التجريبي، راجع: موسوعة أعلام الفلسفة العرب والأجانب ٢/٣٧٩، روني إيلي ألفا

(٧) قصة الفلسفة الحديثة، ص ٢٠٨، زكي نجيب محمود

(٨) المصدر نفسه

(٩) راجع: فلسفتنا، ص ٦٩، للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

(١٠)  تاريخ الفلسفة الحديثة، ص ١٧٣، يوسف كرم

(١١) المادية والمثالية في الفلسفة، ص ٧٥، جورج بوليتزير

(١٢) استفدت هذه الملاحظة، من أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، تأليف: السيد محمد حسين الطباطائي، تعليق: الشهيد الشيخ مرتضى مطهري

(١٣) يعني فرنسيس بيكون، وهو أحد أشهر رواد المذهب التجريبي في إنجلترا، راجع: موسوعة أعلام الفلسفة العرب والأجانب ١/٣٠٥، روني إيلي ألفا

(١٤) قصة الفلسفة الحديثة، ص ٦١، زكي نجيب محمود

(١٥) تاريخ الفلسفة الحديثة، ص ٥٧، يوسف كرم

(١٦) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، ١/٤٣٦، تأليف:السيد محمد حسين الطباطائي، تعليق: الشهيد الشيخ مرتضى مطهري

(١٧) إن أدرت التوسع، راجع: نظرية المعرفة، محاضرات آية الله الشيخ جعفر السبحاني، تقرير: الشيخ حسن محمد مكي العاملي. راجع أيضا: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

(١٨) إن أردت التوسع، راجع: الأربعون حديثا: السيد الإمام روح الله الخميني. راجع أيضا، الإلهيات: محاضرات آية الله الشيخ جعفر السبحاني، تقرير: الشيخ حسن محمد مكي العاملي، وغيرها من المصادر

(١٩) المصدر نفسه، ٤/١٩٧

(٢٠) إن أردت التوسع، راجع: المصدر نفسه، الجزء الأول. راجع أيضا، دروس في العقيدة الإسلامية، آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

(٢١) نظرية المعرفة، محاضرات آية الله الشيخ جعفر السبحاني، تقرير: الشيخ حسن محمد مكي العاملي

(٢٢) سورة فاطر، آية ١٥

(٢٣) سورة النجم، آية ٤٨

(٢٤) سورة الطور، آية ٣٥

(٢٥) سورة الطور، آية ٣٦

(٢٦) الدين بين معطيات العلم والإلحاد، ص ١٤٣، أبحاث سماحة السيد منير الخباز، تقرير: عبد الله الدبوس

(٢٧) المصدر نفسه، ص ١٤٤

(٢٨) سورة الرعد، آية ٢٨

(٢٩) سورة القصص، آية ٥

(٣٠) سورة البقرة، آية ٢٤٩

(٣١) موقع (almoneer.org)، المحاضرة بعنوان: حاجتنا للمدد الغيبي، سماحة السيد منير الخباز

(٣٢) سورة النساء، آية ٢٩-٣٠

(٣٣) الكافي، ٢/٣٦٢، ثقة الإسلام الكليني، باب من أخاف مؤمنا، الحديث: ١

 

 

( حوزة الإمام زين العابدين – عليه السلام – )

الإعداد: علي مهدي العجيمي

موعد التسليم: ٨ ذو القعدة ١٤٤٣ه / ٨ يونيو ٢٠٢٢م